الْوَقَارُ وَالطَّيْش
خطبة جمعة بتاريخ / 14-11-1434 هـ
الحمد لله الكريم الحليم ؛ يهدي لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو ، ويصرف عن سيِّئها لا يصرف عن سيِّئها إلا هو ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإنَّ من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون عباد الله : الوقار والطيش خُلقان متضادان ووصفان متباينان ؛ والوقار : هو السكينة والطمأنينة والرزانة . والطيش : خفَّة العقل وسفاهة الحلم ، ولربما آل بكثيرٍ من أهل إلى ضربٍ من الجنون .
أيها المؤمنون : والوقار مفتاح السلامة وباب الفلاح والخير في الدنيا والآخرة ، والطيش مفتاح الندامة والهلكة في الدنيا والآخرة .
عباد الله : الوقار خُلُق أبينا آدم عليه السلام ومن تشبَّه به من ذريته ، والطيش خُلُق إبليس ومن تشبَّه من ذريته ومن ذرية آدم ؛ وذلك أنَّ آدم خُلق من تراب ، والتراب طبعه السكون والرزانة ، وإبليس خُلق من النار ، والنار طبعها الطيش والخفَّة ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((التَّأَنِّي مِنَ اللهِ ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ)) رواه البيهقي عن أنس رضي الله عنه بإسناد حسن .
أيها المؤمنون : والوقار صفة الأنبياء وحِليتهم فهم أهل الوقار وأئمته عليهم صلوات الله وسلامه ؛ فعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((السَّمْتُ الحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)) رواه الترمذي في جامعه بإسناد ثابت .
((والسمت الحسن)) : الطريقة المرضية والسكون والوقار .
((والتؤدة)): الأناة والبُعد عن السفه والطيش .
((والاقتصاد)): التوسط بين الإفراط والتفريط .
وقوله: ((جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)) أي أن هذه الأوصاف العظيمة والخلال الكريمة من شمائل الأنبياء عليهم السلام وأوصافهم ؛ وفي هذا حثٌ على الاقتداء بهم والائتساء ، قال الله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام:90] .
أيها المؤمنون : والوقار وصف الصالحين وحِليتهم ، وذلك لكمال عقولهم ورزانتهم ، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان:63].
والطيش وصف الطالحين فإنَّ عقولهم طائشة وأفئدتهم مضطربة ولهذا كانوا في أمر مريج ؛ وذلك أنَّ طيش عقولهم ينعكس على جوارحهم وحركاتهم كلها ، وذلك أنَّ اختلال حركات الجوارح عائدٌ إلى خفة العقول وخراب الباطن.
أيها المؤمنون عباد الله : والوقار مدعاة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل ، وأما الطيش فهو على الضد من ذلك فإنَّه مدعاةٌ لارتكاب الذنوب واقتراف الآثام والوقوع فيما يُسخط الله جل وعلا ويغضبُه .
أيها المؤمنون عباد الله : وأهل الوقار أهل نظرٍ في العواقب والمآلات ؛ وذلك أنَّ خاصة العقل النظرُ في العواقب ، وأما أهل الطيش فإنهم يندفعون اندفاعًا بلا تعقُّلٍ ولا تأملٍ في العواقب ولهذا مثُّل للنفس في طيشها ككُرة من فخار وُضعت على منحدر أملس فلا تزال متدحرجةً ولا يُدرى في مآل أمرها ونهاية حالها بأيِّ شيء ترتطم !! نعم أيها المؤمنون؛ كم هي تلك المآلات المؤسفة والنهايات المحزنة التي يؤول إليها أمر الطائشين ممن لا يتأملون في العواقب ولا ينظرون في المآلات ، بينما أهل الوقار في عافية وسلامةٍ دائمةٍ في الدنيا والآخرة ، والفضل بيد الله جل في علاه يمنُّ به على من شاء من عباده .
فنسأله سبحانه أن يمنَّ علينا أجمعين وعلى أهلينا وذرياتنا بالسكون والوقار ، وأن يعيذنا أجمعين من السفه والطيش، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو ، وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى .
عباد الله : ويكثر الطيش في الشباب ؛ وذلك أنَّ الشباب مظنَّة الجهل ومطية الذنوب ، [ ولهذا يقال طيش شباب أو شباب طائش إمَّا على سبيل الانتقاد أو الاعتذار، وما من ريب أنَّ الشاب مسؤول عن سفهه وطيشه يوم يقف بين يدي ربه، فلا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع , منها شبابُه فيما أبلاه].
والشاب -عباد الله- إن لم يزمَّ نفسه بزمام الشرع والعقل والحكمة أوردته المهالك - نعم عباد الله - ولهذا لابد من لجوء صادق إلى الله تبارك وتعالى وعملٍ جاد في إصلاح النفوس وإبعادها عن رعونتها وطيشها وسفهها مع التعوذ بالله جل وعلا وحسن الالتجاء إليه ، وفي الترمذي أنَّ من دعاء نبينا عليه الصلاة والسلام : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ» ، ومثل هذا الدعاء العظيم -أيها المؤمنون- يتأكد في مثل هذا الزمن الذي كثرت فيه وسائل الطيش والسفه فأضرَّت بكثير من الناس ، ولا عاصم من ذلك إلا رب العالمين ؛ نسأله جل في علاه أن يعيذنا وذرياتنا وأهلينا من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء ، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبى بكرٍ الصديق ، وعمرَ الفاروق ، وعثمانَ ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر الدين ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين ، اللهم كن لهم ناصرًا معينا ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله ، أوله وآخره ، سره وعلانيته . ربنا إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-125.html |