حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى
خطبة جمعة بتاريخ / 29-4-1438 هـ
إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل
فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه
ورسوله ، وصفيُّه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيرًا
إلا دل الأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله
وصحبه أجمعين .
أما
بعد أيها المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإنَّ من اتقى الله وقاه وأرشده
إلى خير أمور دينه ودنياه ، وتقوى الله جلَّ وعلا : عملٌ
بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله
خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون: إن من مقامات الدين العظيمة
وخصاله المتينة الجليلة «حُسْنَ الظن بالله جل في علاه» ؛ فإنَّ حُسن الظن -يا
معاشر العباد- بالله جل وعلا مقامٌ عليٌّ من مقامات الدين الرفيعة ، وخصلة جليلة
من خصال الإيمان العظيمة ، فإن الله عز وجل عند ظن عبده به ، فهو جل وعلا لا يُضيع
أمل آمل ، ولا يُضيع عمل عامل ، فإنه سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا .
أيها المؤمنون : ولقد تكاثرت الدلائل على عظيم
شأن حُسن الظن بالله جل وعلا وما يترتب عليه من الآثار العظيمة والثمار الجليلة في
الدنيا والآخرة ؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ
عَبْدِي بِي)) ، وروى الإمام أحمدفي مسنده عن واثلة ابن الأسقع رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا عِنْدَ
ظَنِّ عَبْدِي بِي ؛ فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)) ، ويوضح هذا الحديث ما جاء في
المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((قَالَ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ؛ إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا
فَلَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)) ، أي أن للعبد ما ظن بربه جل في علاه ، فإن
ظن بالله أنه يُقيل عثرته ويغفر زلته ويقبل توبته ويرفع درجته ويُعظم مثوبته فله
هذا الظن بربه جل في علاه ، ومن ظن خلاف ذلك فله ما ظن بربه جل في علاه ، فإن
للعبد في هذا المقام ما ظنه بربه ؛ فإن ظن الخير فله الخير ، وإن ظن خلاف ذلك فله
ما ظن .
أيها المؤمنون : وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن
جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث يقول
: ((لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ)) ، ورواه
أحمد وزاد في روايته((فَإِنَّ قَوْمًا قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ)) ؛ ثم تلا قول الله تعالى : ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ
﴾ [فصلت:23] .
أيها المؤمنون: وإن حسن الظن بالله معدودٌ في
أعظم الخصال وأشرف الصفات وأجلِّها روى الإمام ابن أبي الدنيا في كتابه حسن الظن
بالله عن الصحابي الجليل أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : «وَالَّذِي
لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ حُسْنِ
الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ
عَبْدٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الظَّنَّ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
ظَنُّهُ ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ» .
ولهذا ياعباد الله : ينبغي على العبدأن يكون حَسَن الظن بالله جل وعلا ولا يتعاظمه ذنب أن يتوب منه ، فإن
الله عز وجل لا يتعاظمه ذنب أن يغفره،والله جل وعلا لا يتعاظمه حاجة سُئلها جل
في علاه أن يعطيها من سأله ، فإن عطاءه كلام ومنعه كلام ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس:82].
أيها المؤمنون : وحسن الظن بالله مبني على حسن
المعرفة بالله ؛ المعرفة بأسمائه وصفاته ، وعظمته وجلاله ، وكماله واقتداره ، وسعة
رحمته جل في علاه ، وعموم فضله ، وأنه عز وجل على كل شيء قدير ، ولا يعجزه شيء ، وأن
الأمر أمره والخلْق خلقه وكل شيء بيده جل في علاه ؛ فإذا عظُمت المعرفة في قلب
المؤمن بربه جل في علاه أحسن الظن بالله استنادًا إلى حُسن معرفته بالله جل وعلا
وأنه واسع المغفرة واسع المن واسع الفضل والعطاء بيده الخير وأنه جل وعلا على كل
شيء قدير .
أيها المؤمنون : ومما ينبغي أن يُعلم في هذا
المقام ، بل يؤكَّد عليه ؛ أن حسن الظن مبني على حسن العمل ، لأن العمل إذا كان
سيئا قبيحًا والعياذ بالله حال بين العبد وبين حسن الظن بالله ، كما قال الحسن
البصري رحمه الله : «إنَّ المؤمن أحسن الظن بالله فأحسن العمل ، وإنَّ الفاجر أساء
الظن بالله فأساء العمل» . كيف يكون المرء حسن الظن بالله وهو شاردٌ عن ربه ومولاه
، مُعرض عن رحمته ومغفرته جل في علاه ، منهمك في غيه سادرٌ في ذنوبه ، مُعرض عن
ربه جل وعلا ، ومن كانت هذه حاله فإنه يعيش حالة الغرور والأماني التي لا تجدي
لصاحبها شيئا ، وقد قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:123] ، ولهذا فإن المرء المؤمن كما أنه يعلم أن ربه جل وعلا واسع
المغفرة فليعلم في الوقت نفسه أن الله عز وجل شديد العقاب،﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي
أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ
﴾ [الحجر:49-50].
أيها المؤمنون : ينبغي على العبد الناصح لنفسه
أن يكون مجاهدًا لها على حسن العمل المثمر لحسن الظن بالله،﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69] .
يا معاشر العباد : إن
بوابة الدخول إلى هذا المقام العظيم هي التوبة الصادقة إلى الله جل وعلا من كل ذنب
وخطيئة ،﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ
جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]توبةً نصوحا نابعةً من
قلوبكم ترجون بها رحمة ربكم جل في علاه ، ففلاحكم وسعادتكم في توبتكم إلى الله جل
في علاه .
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا أجمعين لحسن التوبة
وحسن العمل وحسن الظن بالله عز وجل ، وأن يغفر لنا أجمعين ذنوبنا وإسرافنا في
أمرنا ، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيما ، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا
إلى أنفسنا طرفة عين .أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة إنه
هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمد الشاكرين ، وأثني عليه ثناء الذاكرين ، لا أحصي ثناءً عليه
هو كماأثنى على نفسه ، أحمده سبحانه على نعمه العظيمة وعطاياه الجسيمة وآلاءه
المتتالية وأفضاله التي لا تعد ولا تحصى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون
عباد الله : اتّقوا الله ربكم ، وراقبوه في جميع أعمالكم وأحوالكم مراقبة
من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه . واعلموا -رعاكم
الله- أن من أشد الذنوب وأضرها على المرء في دنياه وأخراه سوء الظن بالله جل في
علاه ، فإن الله عز وجل لم يذكر على ذنبٍ عقوبة مثلما ذكره في هذا الذنب سوء الظن
بالله جل وعلا قال الله تعالى : ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح:6] . وسوء
الظن بالله من أعظم موجبات الردى والهلاك في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
(23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا
هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ [فصلت:23-24] .
أيها المؤمنون عباد الله : لنقبل
على الله جل وعلا تائبين من ذنوبنا ، نادمين على تفريطنا في جنب ربنا ، مقبلين على
طاعته جل في علاه ، متوكلين عليه طالبين رحمته ، راجين مغفرته خائفين من عذابه ؛ ففي
ذلك سعادة الدنيا والآخرة ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء:57] .
والكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبع
نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
وصلُّوا وسلِّموا
- رعاكم الله - على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى
الله عليه وسلم: (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).
اللهم صلِّ
على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك
على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وارض
اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديِّين ؛ أبي بكرٍالصديق ، وعمرَ الفاروق ،
وعثمان ذي النورين ،وأبي الحسنين علي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم
بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم
أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى
الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن
لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيِّدا ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك
، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم. اللهم آمنَّا في أوطاننا ،
وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب
العالمين .
اللهم آتِ
نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها،اللهم أعنا ولا تُعن
علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى
لنا ، اللهم وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين، إليك
أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبَّل توبتنا واغسل حوبتنا ، وثبت
حجتنا ، واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا . اللهم واغفر لنا ذنبنا
كله؛ دقَّه وجلَّه ، أوَّله وآخره ، علانيته وسرَّه . اللهم اغفر لنا ولوالدينا
ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم أغثنا ، اللهم
أغثنا ، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبرحمتك التي
وسعت كل شيء أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا
تجعلنا من اليائسين ، اللهم إنا نسألك غيثًا مغيثا ، هنيئًا مريئا ، سحَّا طبقا ، نافعًا
غير ضار ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا
هدم ولا عذاب ولا غرق ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا ، وآثرنا ولا
تؤثر علينا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله :
اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزيدكم ،﴿ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر
تجدها هنا:
http:///www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |