خير من استأجرت القوي الأمين
الحمد لله العزيز الحكيم ، الخبير العليم ، الرحمن الرحيم ، القائل في كتابه العظيم : } وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه : ولله حمد دائم بدوامه
مدى الدهر لا يفنى ولا الحمد يكمل
مداد كلام الله عدة خلقه
رضى نفسه ينمو ويسمو ويفضل
يزيد على وزن الخلائق كلها
وأرجح من وزن الجميع وأثقل
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له : } الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لنا ولمن كان قبلنا ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
خير من استأجرت القوي الأمين ، موضوع وعدنا بالحديث عنه ، وذلك في الجمعة الماضية ، حيث ذكرنا ما حدث لموسى ـ عليه السلام ـ عندما ورد ماء مدين ، وسقى للمرأتين ، وطلبت إحداهما من أبيها ، أن يجعله أجيرا عنده ، فقالت كما قال تعالى : } قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ { يقول ابن سعدي في تفسيره : خير أجير استؤجر من جمعهما ـ يعني القوة والأمانة ـ
فموسى ـ عليه السلام ، أيها الأخوة ـ قوي بجسمه ، فوكزة منه قضت على القبطي ، وقوي في دقة ملاحظته ، فلما رأى المرأتين تذودان ، سألهما : } ما خطبكما { وقوي بعمله ، حيث زاحم الرعاة وسقى للمرأتين ، وكذلك أمين ، لأنه أراد وجه الله U بما قام به ، وذكر أنه حينما ذهب مع المرأة لأبيها في مسكنه ، طلب منها أن تمشي خلفه ، فلم يرض أن تمشي أمامه ، لكي لا يمتد نظره إليها ، وهذا أمر يدل على أمانته .
فالقوة والأمانة ـ أيها الأخوة ـ صفتان يجب أن يتصف بهما كل أجير ، ولذلك قال U : } إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ { يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره : وهذان الوصفان ، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا بإجارة أو غيرها .
فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما ، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن الله U لم يذكر قصة موسى ، وهذه الحادثة ، ليملى بها فراغا في كتابه ، أو ليتسلى بها الفارغون من عباده ، إنما ذكرها لتكون عبرة وموعظة ، وليعمل بها من أراد سعادة الدارين ، وليتذوق ثمرتها من أراد نجاة الحياتين ، وتأملوا ـ أيها الأخوة ـ قول الله تعالى ، في سرده لأحداث تلك القصة : } إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ { فوالله الذي لا إله غيره ، ما ضاعت حقوق المسلمين ، وأكلت الأموال بالباطل ، وتعطلت المصالح ، وحصلت الكوارث ، وحلت المصائب بالأمة ، إلا بسبب عدم العمل بهذا التوجيه الرباني العظيم .
أيها الأخوة :
يقول أبو هُرَيْرَةَ t : بَيْنَمَا النَّبِيُّ r جَالِسٌ في مَجْلِسِهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ حَدِيثًا جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ r يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ : (( أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ )) . قَالَ : هَذَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : (( إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ )) . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : (( إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ )) فإسناد الأمور إلى غير أهلها ، ضياع للأمانة ، حذر منه النبي r كما في هذا الحديث ، فالأجير لا يكون أجيرا بحق ، يقوم بعمله وبما أسند إليه ، إلا إذا كان قويا أمينا ، فالقوة والأمانة ، هما المؤهلان اللذان يجب أن يكونا في كل أجير ، الأجير ـ أيها الأخوة ـ لابد أن يكون قويا بما يحتاج إليه فيه عمله ، سواء كان قويا في علمه ، أو جسمه ، والأهم من ذلك أن يكون قويا في عقله وفهمه بل وشخصيته ، يدرك كيف يقوم بما كلف به ، وينفذ ما أسند إليه ، أما إذا كان ضعيفا فإنه لا يصلح أبدا بأن يكون أجيرا مهما كان ، حتى لو كان من أصحاب النبي r ، وهذا لا يدل على إنقاص قيمته ، أو الحط من قدره ، ولكن من مصلحته ، وسلامته ونجاته ، أن لا يستأجر في عمل يعجز عنه ، فيتعطل بسببه ويكون وزرا عليه يوم القيامة ، فأبو ذر الغفاري t ، صحابي جليل ، من أصحاب النبي r ، الذي لو أنفق أحدنا مثل جبل أحد ذهبا ، ما بلغ نصف مد لأحدهم ، يقول t في الحديث الذي رواه مسلم : قلتُ : يا رسولَ الله ، ألا تَسْتَعْملُني ؟ قال : فَضَرَبَ بيدهِ على مَنْكِبي ثم قال : (( يا أبَا ذَرٍّ ، إِنَّكَ ضَعيفٌ ، وإِنَّها أمَانَةٌ ، وإنها يومَ القيامةِ خِزيٌ وَنَدَامَةٌ ، إِلا مَنْ أَخذَها بِحَقِّها ، وَأدَّى الَّذِي عليه فِيهَا )) ، وفي رواية قال له : (( يا أبا ذَرٍّ ، إِني أرَاكَ ضَعيفا ، وإني أحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسي ، لا تَأمَّرنَّ على اثْنينِ ، ولا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتيمٍ )) .
فالقوة مطلب شرعي ، بل وعقلي واجتماعي ، يجب أن يكون في كل أجير على وجه الأرض ، فإذا فقد هذا المطلب ، فبفقده يفقد نصف الخير المأمول ، وإذا فقد الخير فلا تنتظر إلا الشر ، وكما قال تعالى : } إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا واستغفر الله ، لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
وأما الأمانة التي يجب أن تكون بجانب القوة عند الأجير ، فشأنها شأن عظيم } إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ { ، فقد يكون الأجير قويا في جسمه ، قويا في علمه ، قويا في مؤهلاته ، ولكنه غير أمين في تأدية عمله ، وهنا تكون الكارثة ، لأنه قد يستخدم هذا الأجير قوته لخيانة أمانته ، ومن هؤلاء أولائك الذين يتقنون كتابة التقارير ، وتسطير الإنجازات ، ويحبون أن يحمدوا بمالم يفعلوا على صفحات الجرائد ، ووسائل الإعلام ، وهم في الواقع ولا شيء .
ومن هؤلاء أيضا الذين يخصون أقاربهم وأصدقاءهم ومعارفهم ، بمصالح أعمالهم ، ويكون ذلك على حساب غيرهم من المسلمين ، وهذا من الخيانة حتى لولي الأمر الذي أمر الله U بعدم خيانته . فالأمانة شرط من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في الأجير .
أيها الأخوة المؤمنون :
فالقوة والأمانة ، صفتان متلازمتان ، يجب أن يتصف بهما كل أجير ، ولأهميتهما ذكرهما الله U في مواضع عده من كتابه ، فعندما جاء وصفه لجبريل ، الذي يبلغ وحيه لرسله ، قال سبحانه : } إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ { ولما سرد لنا U قصة يوسف ، ماذا قال يوسف ـ عليه السلام ـ لملك مصر ، قال كما قال سبحانه : } قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ { أي حفيظ للذي أتولاه ، لا يضيع منه شيء في غير محله ، عليم بكيفية التدبير والعطاء والمنع .
ألا فلنتق الله ـ عباد الله ـ وليحرص كل أجير منا على أن يتصف بهاتين الصفتين المهمتين ، فيكون قويا أمينا في عمله ، فيجد ذلك حسنات تثقل بها موازين أعماله الصالحة يوم القيامة .
اسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يرزقنا الفقه في هذا الدين ، وأن يجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، إنه سميع مجيب .
اللهم وفقنا لهداك ، واجعل عملنا برضاك ، اللهم ارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، يا رب العالمين .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم وفق ولي أمرنا ، خادم الحرمين الشريفين لهداك ، واجعل عمله برضاك ، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه ، واصرف عنه بطانة السوء يا رب العالمين .
اللهم اشف مرضانا . وارحم موتانا ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
|