من مواقف الكليم بالقرآن العظيم
الحمد لله العليم البصير ، اللطيف الخبير ، القوي القدير ، } غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، } لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ { .
تعالى الواحد الصمد الجليل
وحاشى أن يكون له عديل
هو الملك العزيز وكل شيء
سواه فهو منتقص ذليل
وما من مذهب إلا إليه
وإن سبيله لهو السبيل
وإن له لمنا ليس يحصى
وإن عطاءه لهو الجزيل
اسأله U أن يغفر ذنوبنا ، وأن يستر عيوبنا ، وأن يمن علينا بجوده وفضله وكرمه ، إنه سميع مجيب .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له العلي الكبير .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، البشير النذير ، والسراج المنير :
لن تهتدي أمة في غير منهجه
مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم
ملح أجاج سراب خادع خور
ليست كمثل فرات سائغ طعم
إن أقفرت بلدة من نور سنته
فطائر السعد لم يهوي ولم يحم
صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لنا ولمن كان قبلنا ، فهو القائل سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
نبي الله موسى ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ دخل مدينة من مدن مصر ، على حين غفلة من أهلها ، يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره ، إما وقت القائلة أو غير ذلك من الأوقات التي بها يغفلون عن الانتشار ، فلما دخل ـ أيها الأخوة ـ هذه المدينة ، كما قال تعالى : } وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ { وجد إسرائيليا وقبطيا ، يقتتلان ، الذي من شيعته أي من بني إسرائيل ، والذي من عدوه أي من الأقباط ، } فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ { استجاب موسى ـ عليه السلام ـ لاستغاثة الإسرائيلي ، فوكز القبطي ، فقضى عليه ، أي مات بسبب وكزته ، فندم موسى وقال كما قال تبارك وتعالى : } قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ {
يقول U : } فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ { أصبح موسى خائفا ، ولكنه وجد الرجل الذي من بني إسرائيل بالأمس ، يقتتل مع قبطي آخر ، فاستصرخ موسى ، فهم موسى أن يبطش بالقبطي الجديد ، فقال له القبطي قبل أن يبطش به : } يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ { أي تريد أن تكون من الجبابرة ، الذين يقتلون الناس بغير حق ، } وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ { وإلا فلو أردت الإصلاح لحلت بيني وبينه من غير قتل أحد ، فتراجع موسى عن قتله .
فتناقل الناس قضية موسى وشاعت حتى وصلت فرعون ورجال دولته ، فتشاوروا على قتله ، وقيض اللّه رجلا ناصحا ، أخبر بموسى بما يخطط له القوم ، وطلب منه الخروج ، كما قال تعالى : } وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ { .
فما كان منه ـ عليه السلام ـ إلا الاستماع لنصيحته ، } فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
خرج موسى من مصر وتوجه إلى مدين جنوب فلسطين ، فلما وصل هناك ، وورد الماء ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول تعالى : } وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ { لما وصل الماء ، وجد الناس يسقون مواشيهم ، ولاحظ من دون هؤلاء الناس ، } امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ { تذودان غنمهما عن حياض الناس ، لعجزهما عن مزاحمة الرعاة الرجال ، فسألهما موسى عليه السلام : } مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ { .
أي ننتظر حتى ينتهي هؤلاء ، ثم نسقي ، لا نسقي حتى يخلو المكان من الرجال ، لا نستطيع أن نزاحم الرجال وليس عندنا رجال يزاحمونهم ، سوى أبونا الشيخ الكبير .
يقول U : } فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ { رحمهما ـ عليه السلام ـ ورق لهما ، وزاحم الناس وسقى لهما لوجه الله U ، } ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ { سأل الله U من فضله ، مظهرا فقره لخالقه ، وحاجته للخير ممن بيده الخير ، وهو الله سبحانه وتعالى .
اسأله U لي ولكم علما نافعا ، ورزقا واسعا ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
ذهبتا المرأتان بعد أن سقى لهما موسى ، إلى أبيهما ، وقد اشتهر عند الناس أنه شعيب وهو ليس بشعيب النبي كما قال ابن سعدي في تفسيره ، الشاهد فأخبرتاه بما جرى لهما ، وذلك الرجل القوي الأمين والشهم الكريم ، فأرسل الرجل إحدى ابنتيه لدعوة موسى ، يقول U : } فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا { ذكر البغوي في تفسيره أن عمر بن الخطاب t قال عن المرأة التي أتت تمشي على استحياء : ليست بسَّلْفَعٍ من النساء خَرَّاجة ولاجة ، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كُمَّ درعها على وجهها استحياء ، والسلفع ـ أيها الأخوة ـ الجريئة على الرجال . فالمرأة أخبرت موسى بدعوة أبيها فقالت : } إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا { أي يكافئك على إحسانك ، فاستجاب موسى للدعوة وذهب مع الفتاة ، فلما وصل الرجل وأخبره بخبره ، قال له الرجل : } لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ { أي نجاك الله منهم ، ووصلت إلى هذا المكان الذي ليس لهم سلطان عليه .
يقول U : } قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ { طلبت من أبيها أن يجعل موسى أجيرا عنده ، يرعى ويسقي الغنم ، وذكرت صفتين مهمتين يجب أن تكونا في الأجير ، القوة والأمانة } خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ { وهذا سوف يكون موضوعنا بإذن الله تعالى الجمعة القادمة .
فوافق الرجل على اقتراح وطلب أبنته ، وقال كما قال تعالى : } قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ { أي أزوجك إحدى البنتين ، مهرها أن تعمل أجيرا عندي ، ثمان سنوات ، وأن تفضلت وأتممت عشرا فتفضل منك ، فوافق موسى وقال : } ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ { .
أيها الأخوة :
قصة كلها حكم وعبر، أردتها مقدمة لحديث بعنوان خير من استأجرت القوي الأمين، وهو موضوع حديثنا في الجمعة القادمة بإذن الله تعالى .
اسأل الله U أن يوفقنا لهداه ، وأن يجعل عملنا في رضاه إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى ، والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار يا رب العالمين . اللهم احفظ لنا ديننا ، الذي هو عصمة أمرنا ، واحفظ لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر ، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى ، ولذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، ونعوذ بك من ضراء مضرة ، ومن فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم اشف مرضانا . وارحم موتانا ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ < |