التعلق بالله
الحمد لله الكريم العظيم المنان ، القوي الديان ، صاحب الجود والإحسان ، } لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، واشكره وقد تأذن بالزيادة لذوي الشكران ، } وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ {.
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، : } عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، نبي الأنس والجان ، الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
يقول U في كتابه : }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { ، ويقول سبحانه : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن فعل الأسباب أمر مطلوب شرعا ، فالولد لا يأتي إلا بعد زواج ، والرزق لا يحصل إلا بعد طلب ، والهداية لا تأتي إلا بعد سعي ، وكما جاء في الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه ، عن أبي ذر t ، أن النبي r قال : يقول الله تبارك وتعالى : (( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِالليْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ )) .
ففعل الأسباب ـ أيها الأخوة ـ أمر مطلوب ، ولكن التعلق بالأسباب ، ونسيان الله U ، وعدم التعلق به ، هو الأمر الذي لا يجوز ، ولا ينبغي أن يقع به المسلم ، بل هو من مفسدات القلوب ، فالذي يتعلق بغير الله U ، فاسد القلب ، وأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله U ، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ومثل المتعلق بغير الله : كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت ، أوهن البيوت.
أيها الأخوة المؤمنون :
إن التعلق بغير الله ، هو آفة من آفات العصر ، ومرض من أمراض الأمة ، وسبب ضياع الهوية الإسلامية ، وما حل بنا وبأمتنا ، وما نعاني منه في مجتمعاتنا ، بل وفي أسرنا وأنفسنا ، سببه تعلقنا بغير الله U ، فقد تعلقت قلوبنا بالأسباب فصرنا نحسب لها ألف حساب وحساب ، وضعف أو عدم تعلقنا بالله سبحانه .
نعم ـ أيها الأخوة ـ صار اعتمادنا واتكالنا وتعلقنا ، على جهودنا وأفكارنا ومؤهلاتنا ووظائفنا وأموالنا ، وعلى أحسابنا وأنسابنا ، بل منا من صار تعلقه بأمور جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان ، وما ملتقى حاتم الطائي إلا من هذا الباب ، فالاحتفال والاحتفاء ، برجل مات على الشرك ، والافتخار به ، وتخليد ذكره ، ومحاولة غرس محبته في نفوس ناشئة المسلمين ، ما هو إلا من باب التعلق بالأمجاد والتاريخ البعيد كل البعد عن شرع الله U . نحن لا ننكر كرم حاتم الطائي ، ولكننا ننكر تمجيده وتعظيمه في نفوس الناس ، وخاصة شباب الأمة التي تعول عليهم نصرها والنهوض بها ، فيا ليت ما بذل من جهود وإعلانات وأوقات وأموال ، كان للنبي r الذي لو أنفق حاتم الطائي مثل الجبال ذهبا ما بلغ ربع مد لصحابته رضي الله عنهم .
أيها الأخوة :
قد لا يعجب بعض الناس مثل هذا الكلام ، بسبب جهله ، ومخالفته لما تربى عليه ، ولكن للعاقل أن يسأل نفسه : ما هي الفائدة التي ستحصل من وراء ذلك الاحتفاء والاحتفال ؟ إذا كان قصدهم الكرم ، وإقراء الضيف ، ونشره بين الناس ، فلا أكرم على وجه الأرض من رسول الله r فهاهي تعاليم ديننا تأمر به ، (( فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )) كما قال r ، وهاهي بعض الأسر تعاني من الفقر والعوز والحاجة ، فماذا قدمتم معشر المعجبين المهتمين بحاتم الطائي لهؤلاء ؟ أم إنكم قصدتم غير ذلك ، وهو المتوقع والمقري بين السطور من عملكم ، الذي سوف يكون هباء منثورا ، فلن تؤجرون عليه ، بل ـ والله ـ يخشى عليكم من الذنب ، لأن ما تقومون به يثير النعرة القبلية ، ويتسبب في تفريق الوحدة ، وتشتيت الكلمة ، وتمزيق الصف ، فنحن في هذه البلاد لم نجتمع ونكون تحت راية واحدة ، إلا بعد أن جعلنا تعلقنا بالله U ، وتركنا التعلق بغيره وراء ظهورنا .
فالتعلق ـ أيها الأخوة ـ بأمجاد القبائل ، وتاريخ الأجداد ، وماضي الأسر لا يقرب من الله U ، الذي يقرب منه سبحانه ، التعلق به ، وتفريغ القلب له ، وإشغال اللسان بذكره ، والجوارح بطاعته ، ومدحه والثناء عليه ، فهو الذي يستحق المدح والثناء .
أيها الأخوة :
إنه لمن أوجب الواجبات ، وآكد المهمات ، أن نهتم بأمر التعلق بالله U ، وأن نربي عليه أنفسنا وأبناءنا ، ولا نسمح بكائن من كان ، أن يبعدنا عن هذا الجانب العقدي العظيم .
روى الترمذي أن النبي r قال لابن عباس : (( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك )) .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
إن تعلق قلب المسلم بغير الله U ، له عواقب وخيمة ، ونتائج سيئة ، منها ـ أيها الأخوة ـ الغفلة عن الآخرة والإقبال على هذه الدنيا الحقيرة الفانية ، وفيه دليل واضح على ضلال المرء ، وبعده عن خالقه ، بل وعدم محبته سبحانه ، يقول بعض العلماء : ما أحب مؤمن ربه إلا تعلق باللـه في كل شيء يفعله ويقوله .
أما إذا كان قلب المسلم معلقا بالله U فإن الله سبحانه وتعالى سوف يجزاه الجزاء الأوفى ، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : إذا أصبح العبد وأمسى وليس همُّه إلا الله وحده ، تحمل الله سبحانه حوائجه كلها ، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرَّغ قلبه لمحبته ، ولسانه لذكره ، وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همُّه ، حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه ، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ، ولسانه عن ذكره بذكرهم ، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم ، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره ، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره . فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته ، بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته . قال تعالى : } وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ { .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ وليكن تعلقنا بخالقنا سبحانه ، ولنربي عليه أبنائنا.
اسأله سبحانه ألا يعلق قلوبنا بغيره ، إنه سميع مجيب .
اللهم أهدي ضال المسلمين ، وارزقنا الفقه في الدين ، واجعلنا هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم وفقنا لهداك ، واجعل عملنا برضاك ، اللهم ارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، يا رب العالمين .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم وفق ولي أمرنا ، خادم الحرمين الشريفين لهداك ، واجعل عمله برضاك ، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه ، واصرف عنه بطانة السوء يا رب العالمين .
اللهم اشف مرضانا . وارحم موتانا ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
|