فضائل عشر ذي الحجة
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله وصفيّه وخليله وأمينه على وحيه ومبلِّغ النّاس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله و صحبه أجمعين
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه مراقبة من يعلم أنّ ربَّه يسمعه و يراه.
ثم أما بعد عباد الله : فإنّا نستقبل أياماً فاضلة وعشراً مباركة هي خير الأيام وأفضلها وأجلّها وأعظمها ، شرَّف الله جلّ وعلا قدرها وأعلا شأنها وعظّم من مكانتها فأقسم بها عزّ شأنه في كتابه قال الله جلّ و علا : ﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر:1-2] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : هي العشر الأوَل من شهر ذي الحجّة .
وقد اختلف العلماء أيُّ العشرين أفضل ؛ العشر الأول من شهر ذي الحجة ؟ أو العشر الأخَر من شهر رمضان المبارك ؟ والتّحقيق في ذلك في قول جماعة من المحققين من أهل العلم :
أنّ العشر الأيام الأوّل من شهر ذي الحجة هي خير أيام السنة على الإطلاق ، والعشر الليالي الآخر من شهر رمضان هي خير ليالي السنة على الإطلاق ؛ وفي الليالي الأخيرة من شهر رمضان ليلة القدر خير الليالي ، وفي العشر الأوَل من شهر ذي الحجة يوم عرفة سيّد الأيام وخيرها.
عباد الله : إنّنا نستقبل موسماً مُباركاً عظيماً وميداناً للطّاعة جسيما ينبغي على المسلم أن يعظِّم أمره وأن يُعلي شأنه وأن يحافظ عليه تمام المحافظة وأن لا يجعل أيامه المباركات وساعاته الثمينات تمضي سُدى أو تضيع هباء ويندم بعدئذ ولا ينفع النّدم.
عباد الله : جاء عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث الحثُّ على العمل الصالح في العشر الأول من شهر ذي الحجة وبيَّن عظيم ثواب ذلك عند الله وعظيم أجره عنده سبحانه ، ففي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال : ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ - يَعْنِي الْعَشْرِ الأول من ذي الحجة - قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
عباد الله : وقول نبينا عليه الصلاة و السلام: ((مَا من عَمَل )) عامٌ مطلق يتناول جميع الأعمال الصالحات والطاعات الزاكيات وأنواع القربات لا يُخصّ من ذلك بنوع بل يعتني العبد في هذه العشر المباركات بالأعمال الصالحات والطاعات الزاكيات ، وأعظم ما يتقرب به العبد إلى الله فرائض الله جل وعلا وأعظم ذلكم الصلاة المكتوبة ، ففي الحديث القدسي يقول ربنا عز وجل : ((مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ )).
ومما تمتاز به هذه العشر المباركات : أنها من بين سائر أيام العام تجتمع فيها أمهات العبادات مما لا يتأتّى في غيرها من الأيام ؛ فيجتمع في هذه العشر المباركة الصلوات والزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام ، ولا يمكن أن تجتمع هذه الأمهات من العبادات في غير هذه العشر المباركات .
عباد الله : إنّ مما يجمُل بالمسلم ويحسُن به في هذه العشر المباركة أن يُري الله سبحانه وتعالى من نفسه خيراً ؛ فالتبكير للمساجد والحرص على الإتيان إليها في وقت مبكر بسكينة وطمأنينة ووقار مع تلاوةٍ لكلام الله وذكرٍ له جلّ وعلا وملازمةٍ للاستغفار وأداء للصّلوات المفروضة في أوقاتها وعناية بالصلاة الراتبة والصلاة المطلقة وأن يكون ذاكراً لله معتنياً بحمده جلّ وعلا وتهليله وتكبيره ؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الحث من ذلك في العشر الأوَل ، قال عليه الصلاة والسلام : (( فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ )) رواه الإمام أحمد.
عباد الله : ومن الأعمال الصالحات التي يشرع للمسلم العناية بها في هذه العشر الصيام ، جاء في المسند عن أبي أمامة رضي الله عنه: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَال: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهُ)). والصيام - عباد الله - جُنّةٌ يتقي به العبد سخط الله وعذابه ، ويتقي به الذنوب والآثام .
عباد الله : و مما يشرع للمسلم في هذه العشر المباركات الصدقات بأنواعها وبذل الإحسان وصلة الأرحام والبر بأبوابه الفسيحة ومجالاته الواسعة .
عباد الله : ومن الأعمال الصالحة التي يشرع للمسلم العناية بها في هذه العشر المباركة أن يتقرب إلى الله جل وعلا بنحر ضحيته في يوم النحر - اليوم العاشر من هذه الأيام - تقرباً إلى الله وطلباً لثوابه ؛ فإنّ الحجاج - حجاجَ بيت الله الحرام - يتقرّبون إلى الله في يوم النحر بنحر الهدايا ، والمسلمون في البلدان يتقرّبون إلى الله جلّ وعلا بنحر وذبح الضحايا.
عباد الله : وقد جاء في صحيح مسلم عن نبيِّنا عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ )) ، وفي رواية : ((إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّىَ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا )) ؛ رواية فيها أمرٌ بالإمساك ورواية فيها النهي عن الأخذ من الشعر والأظافر ؛ والأمر الأصل فيه للوجوب والنهي الأصل فيه للتحريم ، ولهذا - عباد الله - فإنّ مَنْ أراد أن يُضحّي فعليه إذا دخلت العشر أن لا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئاً ، وهذا حكم خاص بمن أراد أن يضحي أما أهله وأولاده ومن يضحي عنهم فإنه لا يشملهم ذلكم الحكم ، و قد قال العلماء في الحكمة من ذلك - عباد الله - أن المضحي عندما شارك الحاج في بعض أعمال الحجّ أمره الله سبحانه بمشاركتهم في شيء من محظورات الإحرام ليبقى المسلمون - حجاجاً وغير حجاج - على صلةٍ بالله معظمّين لشعائر الله قائمين بطاعة الله جلّ وعلا يرجون جميعهم رحمة الله ويخافون عذابه ، والله جلّ وعلا يقول: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32] .
بارك الله لي و لكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم . أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله ووحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده و رسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى ، ثم اعلموا رعاكم الله أنّ الحج فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركان الدين، قال نبيُّنا عليه الصلاة و السلام: ((بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ البيت)). والحجّ - عباد الله - فريضةٌ على كلِّ مسلم ومسلمة في حياته كلها وفي عمره جميعه مرة واحدة وما زاد على ذلك فهو تطوع لما صحَّ عن نبيِّنا عليه الصلاة و السلام أنه قال: (( الْحَجُّ مَرَّةٌ فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ)) ، ويجب - عباد الله- على من لم يؤد هذه الفريضة أن يبادر إليها وأن يسارع لأدائها فإنه لا يعلم ماذا يعرِض له.
عباد الله : وفي الحج تقال العثرات وتكفّر الخطيئات ، وفي الحج عتقٌ من النار ولله جلّ وعلا عتقاء من النار أعداد لا يحصيهم إلا الله جلّ وعلا وذلك في يوم عرفة ، فما أكثر ما يعتق الله جلّ وعلا في ذلك اليوم المبارك من النار .
عباد الله : ((وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ )) ، و ((مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ من ذنوبه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))
عباد الله : ومن وجدت لديه رغبة في الحج وحرص على أدائه ولكنه لم يقم به مراعاة للترتيبات والأنظمة وحفظاً للمشاعر من أن يكون فيها زحامٌ لا يطاق أو نحو ذلك فإنه بإذن الله يؤجر على نيته الصالحة .
ونسأل الله جل وعلا أن يستعملنا أجمعين في طاعته وما يقرّب إليه وأن يصلح لنا شأننا كلَّه وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيما.
وصلّوا وسلّموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذي النّورين ، وأبي الحسنين علي ، وارضَ اللّهمّ عن الصّحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللّهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين ، وأذلّ الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدّين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين. اللّهمّ عليك بأعداء الدّين فإنهم لا يعجزونك ، اللّهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللّهمّ من شرورهم . اللّهمّ آمنا في أوطاننا وأصلح أئمّتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللّهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك وأعنه على طاعتك وارزقه البطانة الصالحة الناصحة . اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين لكل قول سديد وعمل رشيد .
اللّهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم أصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا ، اللهم اهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا واجعلنا مباركين أينما كنّا. اللّهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك وشكر نعمتك وحسن عبادتك . اللهم إنا نسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً ، ونسألك اللّهم من خير ما تعلم ونعوذ بك اللهم من شر ما تعلم ونستغفرك اللهم من شر ما تعلم إنك أنت علام الغيوب. اللّهمّ اغفر لنا ما قدمنا وما أخّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت . اللّهمّ اغفر لنا ذنبنا كلّه دِقّه وجِلّه أوله وآخره سره وعلنه ، اللّهم اغفر ذنوب المذنبين ، اللّهمّ اغفر ذنوب المذنبين ، اللّهم اغفر ذنوب المذنبين وتب على التائبين ، واكتب اللّهم الصّحة والعافية والغنيمة والأجر للحجاج والمعتمرين. ربَّنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .
اللّهم إنّا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدرارا - مدوا أيديكم عباد الله - اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ، إلهنا وسيدنا ورجاءنا ومولانا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت يا مغيث المستغيثين ، يا رجاء الخلق أجمعين ، يا من لا يرد عبداً دعاه ولا يخيب عبداً ناجاه ، إلهنا وسيدنا ومولانا اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللّهم اسقنا وأغثنا ، اللّهم اسقنا وأغثنا ، اللّهم اسقنا وأغثنا ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق. اللّهم إنا نسألك غيثاً مُغيثاً هنيئاً مريئاً سحًّا طبقاً نافعاً غير ضار ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا . اللّهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلا إليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا وآثرنا ولا تؤثر علينا . ربَّنا إنّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله وسلم و بارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
|