موعظةٌ
قبل العشر الأواخر
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى وراقبِوه، وتَذَكَّرُوا دائِماً أَهَمِّيَّةَ الوقتِ الذي تَعِشُونَه، وأَنَّ اللهَ جَعَلَه
لِلاسْتِعدادِ لِيَومِ المَعادِ فقط، بَلْ إن غايَةَ خَلْقِكُم مَحْصُورَةٌ في
ذلك، قال تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ
دِينُ
الْقَيِّمَةِ
). وقال
تعالى:
( وَمَا
خَلَقْتُ
الْجِنَّ
وَالْإِنسَ
إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ
).
فلا تَنْسَوا ذلك يا عِبادَ الله، فإنه مِن
أَعْظَمِ ما يُعِينُكم على مُواصَلَةِ الاجْتِهادِ في طاعَةِ اللهِ، ومُواصَلَةِ
العَمَل في رَمَضان، وعَدَمِ الضَّعْفِ أو الفُتُور. والمُؤْمِنُ الصادِقُ
الحريصُ، كُلَّما تَقَدَّمَت بِه الأيامُ، زادَ اجْتِهادُه، فَتَجِدُهُ في آخِرِ
الشَّهْرِ أَكْثَرَ طاعَةً مِن أَوَّلِه، لِأَن هذا هو هديُ رسولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم.
لَقَدْ مَضَى أَكْثَرُ شَهْرِ رَمضان، ونَحْنُ على أَعْتابِ العَشْرِ الأخيرةِ مِنه، وفِيها مِن الخَيْرِ والفَضائِلِ ما
لا يَخْطُرُ بِبالِ أَحَدٍ، فَإنَّ مِن رَحْمَةِ اللهِ بِنا، أَنَّ فَضائِلَ
شَهْرِ رَمضانَ لا تنقَضي، ولِذلكَ خَصَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِالمَزيدِ
مِن العَمَل، قالت عائِشَةُ رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
دخل العَشْرُ شَدِّ مِئزَرَه، وأحيا ليله، وأيقظ أهله ). أَي أَن اجْتِهادَه
يَتَضاعَف، وقِيامَه يَكُونُ أَطْول، ولا يَقْتَصِرُ الأَمْرُ على نَفْسِه، بَلْ
يَأْمُرُ أَهْلَه أيضاً بذلك.
وهذا مِن التَدَرُّجِ في التَعَبُّدِ
والتَبَتُّلِ والإقبالِ على اللهِ، فإِنَّ العَبْدَ في أَوَّلِ الشهرِ يَنْقَطِعُ
بالصيامِ عن المَلَذَّاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِفُضُولِ الطعامِ والشرابِ والجِماعِ، والكلامِ المُحَرَّمِ، فَيَتَحَصَّنُ قَلْبُهُ بِذلك مِن الصَّوَارِفِ
الشَّهْوانِيَةِ التي تُعِيقُ القَلْبَ عن سَيْرِهِ إلى اللهِ والدارِ الآخِرَةِ، حتى إِذا تَهَيَّأَت النَّفْسُ واسْتَعَدَّت، انْتَقَلَتْ في العَشْرِ الأواخِرِ
إلى مَرْحَلَةِ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِحِمايَةِ القلبِ مِن شَواغِلِ الدنيا، وشَواغِلِ الصُّحْبَةِ والجُلَساء، وذلك بالانقِطاعِ والتفَرُّغِ شِبْهِ التامِ
بالصلاةِ والقرآنِ والدعاءِ وسائِرِ الأذكارِ، سواءً كان ذلك بالاعتكافِ أو
غَيْرِه. فما ظَنُّكم بِمَن كانت هذه حالُه، كيف سَيَكونُ قَلْبُه في رمضانَ
وبَعْدِ رَمضان؟!
ومِمَّا يَحُثُّ العَبْدَ على مَزِيدِ
الاجتِهادِ، أَنَّ فيها لَيْلَةَ القَدْرِ التي عَظَّمَ اللهُ شأْنَها بِأُسْلُوبٍ
يَجْعَلُ صاحِبَ القَلْبِ الحَيِّ لا يَتَرَدَّدُ في الحِرْصِ وبَذْلِ الأسبابِ، فقال: ( وما أدراك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ). أي فإن شأنَها جَلِيلٌ، وقَدْرَها
عظيم. وهذه الجُمْلَةُ بِهذِه الصِّيغَةِ يُسْتَفادُ مِنها التعظيمُ
والتَّفْخِيمُ، لِعِظَمِ شأنِها وقَدْرِها. أي فإن شَأْنَها جَلِيلٌ وقَدْرَها
عظيم. فهي الليلةُ التي نزلَ فيها القرآن، وتُقَدَّرُ فيها مَقادِيرُ السَّنَة، كما قال تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حكِيم ). والملائِكَةُ فيها
أَكْثَرُ مِن الحَصَى، وأَكْمَلَ اللهُ فَضْلَها بِقَولِه: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِّن ألف شَهْرٍ )، والمُرادُ بالخَيْرِيَّةِ هُنا: ثَوابُ العملِ فيها،
وما يُنَزِّلُ اللهُ تعالى فيها من الخيرِ والبركةِ على هذه الأُمَّة. وهذا مِمَّا
تَنْدَهِش له العُقُولُ، حَيْثُ مَنَّ اللهُ على هذه الأُمةِ بِلَيلةٍ يَكونُ
العملُ فيها يُقابِلُ ويَزِيدُ على عَمَلِ رَجُلٍ اسْتَمرَّ في العبادةِ ألفَ
شَهْرٍ، أَيْ ثلاثا وثمانين سنةً وأربعةَ أشهر. فَيا لَه مِن فَضْلٍ لا يُحْرَمُه
إلا مَحْرُوم.
وهذا الأُسْلُوبُ يَبْعَثُ الأَمَلَ حتى في
قَلْبِ المُقَصِّرِ والمُفَرِّطِ، الذي فاتَه الاجتِهادُ أَوَّلَ الشَّهْرِ، عِنْدَما يَأْتِيهِ الشيطانُ لِيُقَنِّطَه، ويُشْعِرَهُ بِأَنه فاتُهُ كُلُّ شَيء.
فَيَعُودُ له الأمَلُ مِن جديد، فَيَشَمِّرُ مَع إخوانِه المؤمنين، لِيَلْحَقَ
بِرَكْبِهِم ويَكونَ معَهُم.
فَيا عِبادَ اللهِ: إنها عَشْرُ لَيالٍ أو
تِسْعٌ، فاغْتَنِمُوها، وأَرُوا اللهَ مِن أَنْفُسِكُم فيها خَيرا.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ،
وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ
تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عباد الله: إيَّاكُم والتفريطَ فِيما بَقِي
مِن لَيالِي هذا الشهر، وتَزَوَّدُوا مِن الأعمالِ الصالحةِ والمُحافظةِ على صلاةِ
الليل، واجْعَلُوا ذلك سَبَبًا لاستِمرارِكم على صلاةِ الليلِ بَعْدَ رمضان.
واجتهِدُوا في الدعاءِ لأنفسِكم بِالمَغْفِرةِ والرحمةِ والقَبُول، وأَكْثِرُوا
مِن الدعاءِ لإخوانِكم المسلمين في كل مكان. وأَنْ يَنْصُرَ اللهُ الإسلامَ
وأَهْلَه.
واحرِصُوا يا عبادَ اللهِ على حَثِّ
أولادِكُم ونسائِكُم على الصلاةِ والعبادةِ في هذه الليالي فَإِن مِن الاجْتِهادِ
الذي كان يَفْعَلُه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو إِيقاظَ أَهْلِه في هذه
الليالي. ومَن كانت مِن نِسائِه حائِضاً فَلْيُخْبِرْها أَن الخَيْرَ لَيْسَ
مَقْصُورًا على الصلاة. وَلْيَحُثَّها على كَثْرَةِ الذِّكْرِ والاستغفارِ، والدعاءِ وقراءَةِ القرآن. فإن الحائضَ أو النُّفَساءَ وإِنْ كانت لا تَمَسُّ
القُرآن، لكنها تَقْرأُ عَن ظَهْرِ قَلْبٍ أَوْ تَلْبَسُ القُفَّازَين وتَحْمِلُ
المِصْحَفَ ولا حَرَجَ عليها فِي ذلك.
اللهم
تقبل منا الصيام والقيام, ووفقنا فيما بقي من الليالي والأيام، وتجاوز عن التقصير
والآثام يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم تقبل صيامنا
وقيامنا ولا تردنا خائبين، اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من نارك
والفوز بجناتك يا حيّ يا قيوم، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من
النار يا أرحم الراحمين، اللهم اقبل من المسلمين صيامهم وقيامهم واغفر لأحياهم
وأمواتهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذلّ الشرك
والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين،
اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان
اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم انصر جُندنا
المرابطين، اللهم سدد رميهم واربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وأنزل عليهم النصر من
عندك يا قوي يا متين، اللهم من مات منهم فتقبله في الشهداء يا رب العالمين، اللهم
منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب اهزم الحوثيين وأعوانهم وحلفائهم، اللهم
اجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ لبلادنا عقيدتها وسيادتها
واستقرارها وأمنها، اللهم احفظها ممن يكيد لها، ويتربص بها الدوائر يا قوي يا
عزيز، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة
وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم
واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من
الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صلِّ
وسلم على عبدك ورسولك محمد..
وللمزيد من
الخطب السابقة عن العشر الأواخر من رمضان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=166
|