خطبة عيد الفطر لعام 1439هـ يوم الفرح
الحمد لله ذي الجلال والجمال ، والعظمة والكمال ، وذي
العطايا والنوال ؛ أحمده تبارك وتعالى حمد الشاكرين ، وأثني عليه ثناء الذاكرين ، أحمده
جلَّ وعلا بما هو لها أهل ؛ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد
أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ
الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ،
فما ترك خيرًا إلا دلَّ لأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد أيها المؤمنون عباد
الله : اتقوا الله ربكم ، واحمدوه جلَّ في علاه على عظيم نعمائه وجزيل عطائه ووافر
آلائه حمدًا كثيرا ، وكونوا لله عز وجل من الشاكرين ، وله تبارك وتعالى من المعظِّمين
، ولشرعه جل وعلا متقيِّدين به ومحكِّمين .
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله ،الله أكبر ولله الحمد.
معاشر المؤمنين: هنيئا لكم وهنَّاكم الله بهذا العيد المبارك العظيم .
أيها المؤمنون: عيد المسلمين
فرحةٌ كبرى وسرورٌ عظيم يعقُب طاعاتٍ لله وعبادات وقربات ؛ فهو عيد حمدٍ وثناء،
وتعظيمٍ وإجلال ، وشكرٍ لله جل في علاه .
أيها المؤمنون : للمسلمين في
السنة عيدان؛ عيد الفطر وعيد الأضحى ، وهما يعقبان طاعتين عظيمتين : طاعة الصيام
في شهر رمضان المبارك ، وطاعة حج بيت الله الحرام .
عباد الله: وفي رمضان لله
عتقاء من النار وذلك في كل ليلة من لياليه المباركات ، ويوم عرفة هو أكثر أيام
الله جل وعلا التي له فيها عتقاء من النار ، فما من الأيام يومٌ أكثر من أن يعتق
الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة ، والمسلم -عباد الله- واثقٌ بوعد ربه طامعٌ
في فضله وثوابه ؛ ولهذا حُق له في هذا اليوم المبارك أن يفرح فرحًا عظيما بتمام
النعمة ووفور المنة ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58].
أيها المؤمنون : فرح المؤمن
في حياته كلها فرحٌ مرتبطٌ بطاعة مولاه وخالقه وسيده جل في علاه؛ ولهذا -عباد الله-
فإن أعظم فرحٍ يقدَّر في هذه الحياة فرح المؤمن بربه وفرحه بخالقه ؛ فرحًا بأسمائه
وصفاته وأنه العظيم الجليل الجميلله الأسماء الحسنى والصفات العلا ، فرحًا بربوبية
الله ورضًا به جل في علاه ربًا خالقًا آمرًا ناهيًا مطاعًا ممتثَلا أمره جل في
علاه . ومن عظيم فرح المؤمن فرحه بأنه عبد لله ؛ يطيع الله عز وجل يمتثل أوامره
وينتهي عن نواهيه ، ولهذا -عباد الله- فإن الطاعاتِ كلَّها تعد فرحًا للمؤمن ، فالمؤمن
يفرح بصلاته ، ويفرح بصيامه ، ويفرح بحجه واعتماره، ويفرح بتلاوته لكتاب ربه ، ويفرح
بذكره لمولاه ، ويفرح بجميع أبواب البر وأعمال الخير ، وحُق له أن يفرح الفرح
العظيم بذلكلأن فرحه بها إنما هو فرحٌ بطاعة الله وسيده ومولاه .
أيها
المؤمنون : وللمؤمن فرحٌ عظيم عندما يوفقه الله جل وعلا للتوبة النصوح من كل ذنب
وخطيئة ، وإن فرحه بالتوبة ولذته بها لذة لا توزى ولا تقارن ، ولو علِم العصاة ما
في التوبة من لذة لا يجدونها في لذة المعصية لكانوا إلى التوبة من أعظم المبادرين
المسارعين ، كيف لا -عباد الله- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَلَّهُ أَشَدُّ
فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى
رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ
وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ
أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً
عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ
أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ ؛ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)) .
أيها
المؤمنون : هذا الفرح المتتابع بالعبادة والطاعة وامتثال الأمر لله جل في علاه
والمداومة على ذلك إلى الممات يعقبه أنواعٌ من الفرح هي آثارٌ لهذا الفرح بطاعة
الله ، وقد اختصر هذا المعنى نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله: ((لِلصَّائِمِ
فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ))
الله أكبر،
الله أكبر، لا إله إلا الله ، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون : ويبدأ الفرح
الذي هو ثمرة فرح العبد بطاعة الله في لحظات الموت ؛ عند مجيء الملائكة لقبض روح
العبد المؤمن ، فإن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ
أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت:30]، وعندما تقبض ملائكة الموت روح العبد المؤمن تقبضها قبضًا رفيقا قائلةً: أيتها
النفس المطمئنة اخرجي راضيةً مرضية إلى رب راضٍ غير غضبان ، فتخرج نفسه مطمئنةً
راضيةً فرِحةً مستبشرة ، ثم يُصعد بروحه فيفرح بتلقي ملائكة كل سماء بهذه الروح
الطيبة تصعد بها ملائكة كل سماء إلى السماء التي فوقها يشيِّعون هذه الروح وهي في
تمام الفرح وغاية السرور .
ثم عباد الله : يوم حشر
العباد ووقوفهم يوم المعاد بين يدي الله جل وعلا تتوالى على المؤمن أنواعٌ من
الفرح والبهجة والسرور ؛ فرحٌ بظل العرش ، وفرحٌ بإيتاء الكتاب باليمين ، وفرحٌ
بثقل الموازين ، وفرحٌ بضياء الوجه وبهائه ، وفرحٌ بالعبور على الصراط ، وفرحٌ
بالشرب من حوض النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، وفرحٌ ببلوغ باب الجنة وإزلافها
إليه ودخوله مع بابها تتلقاه خزنتها مرحبةً محييةً ﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا
خَالِدِينَ﴾ [الزمر:73]؛ فهي أنواع من الفرح تتوالى على عبد الله المؤمن وهي ثمرة طاعاته وعباداته
وقرَبه في هذه الحياة .
أيها المؤمنون : ولا يقارن
بهذا كله فرح المؤمن برضا ربه جل وعلا وتشرُّفه برؤيته جل في علاه ؛ ففي صحيح مسلم
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ
يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ:
أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ
النَّارِ ! قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ
إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ)) ؛ فأي فرح يقدَّر يكون
في هذا الموطن عندما يشرف المؤمن برؤية ربه جل في علاه؟!وجاء في الصحيحين من حديث
أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّ اللهَ يَقُولُ
لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا
وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ؟
فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ
تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ! فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟
فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ
عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا))؛ أي فرحٍ هذا
عباد الله!! أي فرح يقدَّر بهذا الموطن عباد الله !!
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن
يبلغنا أجمعين هذا الفرح العظيم ، أسأل الله أن يبلغنا أجمعين هذا الفرح العظيم ، وأن
يقِر أعيننا في هذه الحياة بالفرح بطاعة الله واتباع شرعه ولزوم هداه إنه تبارك
وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا
شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ؛ صلى الله عليه وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه
أجمعين . أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى.
عباد الله : لقد ذكر الله عز وجل الفرح في
كتابه في مواطن كثيرة تزيد على العشرين موطنا ، والفرح في ذكرهفي القرآن أتى على
نوعين :
النوع الأول : فرحٌ محمودٌ يحبه الله جل
وعلا ؛ ومضى الإشارة إلى طرف منه .
والفرح الثاني عباد الله : فرحٌ مذموم لا
يحبه الله ولا يرضاه ؛ وهو أن يكون فرح العبد قاصرًا على هذه الحياة الدنيا فرِحًا
بهلا مقبلًا عليها مكبًا على تحصيلها لا همَّ له إلا هذه الحياة ، فهو فرحٌ بغير
حق ، وفرحٌ في غير رضا الرب تبارك وتعالى ، بل ربما يتحول إلى فرح من بعض الناس لمعاصي
يرتكبونها تُسخط الله جل وعلا؛ ولهذا قال
قوم قارون له: ﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
﴾ [القصص:76] أي
لا يحب من كان فرحه متعلقًا بهذه الدنيا لا همَّ له ولا بغية ولا طِلبة إلا هذه
الحياة ، ولا فِكر له في الدار الآخرة والاستعداد لها بالأعمال الصالحات والطاعات
الزاكيات .
أيها المؤمنون : والمؤمن في هذه الحياة
لابد له من فرح وحزن ؛لابد له من فرح أمورٍ يفرح بها هي من متع الدنيا ، ولابد له
من حزن بمصائب قد تحل به ، لكن المؤمن يجعل فرحه شكرا، ومصيبته صبرا ، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: ((عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ
خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ
شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا
لَهُ)) . نعم -عباد الله- المؤمن في أفراحه يجعلها شكرًا لله، وفي مصائبه يجعلها صبرا ، وغير المؤمن إذا
ابتلاه الله عز وجل بالنعمة والعطاء يكون فرِحًا فخورا ، وإذا ابتلاه الله عز وجل
بالمصيبة والبلوى يكون جزعًا ساخطا .
نسأل الله عز وجل أن يملأ حياتنا وأوقاتنا بطاعة الله ، وأن يرزقنا
الفرح الحقيقي بعبادة الله ، وأن يعيذنا من فرح يُغضب الله ويسخطه جل في علاه ، وأن
يصلح لنا شأننا أجمعين ، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيما .
وصلُّوا - رعاكم الله – على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه
فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم:((مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين ؛
أبى بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك
وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام
والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم
انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كُن لهم ناصراً ومُعينا
وحافظاً ومؤيدا ، اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل
ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين .اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها
أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم يا رب العالمين وفِّق ولي أمرنا لما
تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم أعِنه يا حي يا قيوم وأصلح
عمله وشأنه كله ، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه يا حي يا قيوم يا ذا
الجلال والإكرام . اللهم إنا نسألك يا الله بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تحفظ
علينا أمننا وإيماننا ، وإسلامنا وسلامتنا ، وأن تحفظ علينا أرضنا من كيد المعتدين
وشر الأشرار يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ، ونسألك يا الله أن توفق جنودنا
في حدود البلاد وفي ثغور الديار وأن تعينهم وأن تسدِّد رميهم ، وأن تحفظهم بما
تحفظ به عبادك الصالحين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم إنا نسألك
الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار .
الله أكبر،
الله أكبر، لا إله إلا الله ، الله أكبر ولله الحمد.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد
من الخطب السابقة لخطبة عيد الفطر تجدها هنا: http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=127
|