مُقَوِّماتُ الأمن
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد، أيها الناس: اتقُوا اللهَ تعالى، وسَلُوه
العافِيَةَ في الدنيا والآخرة، وابْذُلُوا أسبابَ الأَمْنِ مِن جَمِيعِ
المَخَاوُفِ، فَإِنَّ الأَمْنَ مَطْلَبُ جَمِيعِ المُجْتَمَعاتِ والدُّوَلِ. وَمَا
مِن دَولةٍ إلا وَقَدْ سَخَّرَتْ كُلَّ إِمْكاناتِها مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِهِ.
لِأَنَّه مُقَدَّمٌ حَتَّى عَلَى الغِذاءِ، وذلك لأسبابٍ: أوَّلُها:
أَنَّ اللهَ تعالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ إبراهيمَ عَلَيْهِ السلامُ لَمَّا دَعا
لِمَكَّةَ وأَهْلِها قال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾، فَدَعا لَهُم بالأَمْنِ قَبْلَ الرِّزْقِ. ثانيا:
أَنَّ الخائِفَ لا يَرْتاحُ وَلا يَهْنَأُ بِالنَّوْمِ ولا يَتَلَذَّذُ بِالطعامِ
ما دامَ خائِفًا لا يَأْمَنُ على نَفْسِه ولا عَلَى عِرْضِهَ ولا عَلَى مالِه. الثالث:
أَنَّ الناسَ إذا فَقَدُوا الأَمْنَ لا يَسْتَطيعُونَ السَّعْيَ في الأَرْضِ
لِتَحْصِيلِ السِّلَعِ، أو تَبادُلِ السِّلَعِ الضَّرُورية والاسْتِهلاكِيَّةِ،
بَلْ قَدْ يَصِلُ الأَمْرُ إلى أَنَّهُمْ لا يَجِدُونَ ما يَشْتَرُونَه مِن
السِّلَعِ، حتى لَوْ كانُوا يَمْلِكُونَ النُّقُودَ الكثيرةَ، بِسَبَبِ انْقِطاعِ
السُّبُلِ والتَّواصُلِ بَيْنَ أَهْلِ البُلْدان. هذه هِيَ قِيمَةُ الأَمْنِ يا عِبادَ اللهِ، وأكثَرُ
الدُّوَلِ تَجْهَلُ السُّبُلَ والوَسائِلَ التي بِها يَتَوَفَّرُ الأَمْنُ.
والدَّلِيلُ على ذلك تَنَوُّعُ وَسائِلِها في تَحْصِيلِ ذلك، وَيَأْبَى اللهُ إلا
أَنْ يَكُونَ طَريقُ الأَمْنِ هُو الإسلامَ والعَمَلَ بِأَحْكامِهِ، وَأَدَلُّ دَلِيلٍ على ذلك: واقِعُ العَرَبِ
والعالَمِ قَبْلَ بِعْثَةِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، وَوَاقِعُهُم بَعْدَ
مَجِيئِهِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْه، ﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ
مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ
فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ ﴾. وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
﴾. عباد الله:
مقوماتُ الأمنِ واضحةٌ جَلِيَّةٌ، تَجِدُونَها في القرآنِ والسُّنَّةِ، أَوَّلُها:
إصْلاحُ العقيدةِ وتَحْقِيقُ شهادةِ أَنْ لا إله إلا
اللهُ، وذلك بإفرادِ اللهِ بالعِبادةِ وَتَرْكِ الشِّركِ، قال تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾. ومن مقومات
الأمن: اتِّباعُ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم،
والتَّمَسُّكُ بِهَدْيِه والدَّعْوَةُ إلى سُنَّتِهِ، قال تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾،
والحَسْبُ هو الكافِي. أَيْ أَنَّ اللهَ تعالى كافِيكَ وكافِي أَتْباعَكَ، فَلا
تَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى أَحَدٍ. وَكُلَّمَا كَمُلَ الإتِّباعُ، كُلَّمَا كَمُلَت
الكِفايَةُ، وَكُلَّما نَقَصَ الإتِّباعُ، نَقَصَت الكِفايَةُ، وإذا انْعَدَمَ
الإتِّباعُ، حُرِمَ الناسُ مِنْ كِفايَةِ اللهِ لَهُمْ. وَمِنْ مُقَوِّماتِ الأَمْنِ فِي الإسلامِ: زَرْعُ مَعْنَى الأُخُوَّةِ الإِيمانِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ
في نُفُوسِ المسلمين، وَتَحْقِيقُ عَقِيدَةِ الوِلاءِ والبَراءِ، والحُّبِّ فِي
اللهِ والبُغْضِ في الله. فَإِنَّ أَوَّلَ أَمْرٍ فَعَلَه النبيُّ صلى
اللهُ عليه وسلم بَعْدَ الهِجْرَةِ، أَنَّه آخا بَيْنَ الصحابةِ وَبَيْنَ
المُهاجِرِينَ والأَنْصارِ، لَيِكُونَ الرَّابِطُ الحَقِيقِيُّ هُوَ الإيمانَ
باللهِ ورَسولِهِ. فَآخَى بَيْنَ القُرَشِيِّ والأنصارِيِّ والحَبَشِيِّ
والفارِسِي والرُّومِيِّ. وبَيَّنَ اللهُ أَنَّ المسلمين إذا لَمْ يَجْعَلُوا
المُؤاخاةَ والمُوالاةَ مَحْصُورَةً بَيْن المؤمنينَ فَقَطْ، وَقَعَت الفِتْنَةُ
والفسادُ الكَبِيرُ فَقال سُبْحانه: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ ﴾. والمَعْنَى: أَنَّ الكُفَّارَ بَعْضُهُم نُصَراءُ بَعْضٍ، فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا أَنْتُمْ كَذلكَ بَعْضُكُمْ نُصَراءُ بَعْضٍ، تُوَالُونَ المؤمنينَ
وتَنْصُرونَهُم، وَتُبْغِضُونَ الكافِرِينَ وتُعادُونُهُم، تَكُنْ فِتْنَةٌ
كَبِيرَةٌ، وَشَرٌّ كَثِيرٌ وفَسادٌ يَصْعُبُ إصْلاحُه. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ
الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ
الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ عِبادَ الله: ومن مقومات الأمن: إِقامُ الصلاةِ
وإيتاءُ الزكاةِ والأَمْرُ بالمعروفِ والنَّهْيُ عَن المُنْكَرِ، لِأَنَّ
اللهَ تعالى جَمَعَ بَيْنَ هذِه الأُمُورِ الثلاثةِ في آيَةٍ واحِدَةٍ فقال: ﴿
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾. ومن مقومات الأمن: لُزُومُ
الجَماعَةِ، والحِرْصُ عَلَى اجْتِماعِ الكَلِمَةِ، وطاعةُ وَلِيِّ الأَمْرِ
المُسْلِمِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، لِأَنَّ فِي ذلك جَمْعًا
لِلْكَلِمَةِ وبُعْدًا عَنْ الفُرْقَةِ. وَلِذلكَ حَرَّم النبيُّ صلى اللهُ عليه
وسلم الخُرُوجَ عَلَى وَلِي الأَمْرِ المُسْلِمِ ما أَقامَ الصلاةَ، وَأَمَرَ
بِوُجُوبِ الصَّبْرِ وَلُزومِ الجماعةِ حَتَى لَوْ رَأَى المُسْلِمُ ما يَكْرَهُ،
لِمَا يَتَرَتَّبُ على ذلك مِن المَفاسِدِ واخْتِلالِ الأمْنِ وانتِشارِ
الفَوْضَى. وَمُقَوِّماتُ الأَمْنِ يا عِبادَ اللهِ كَثِيرَةٌ
في القُرْآَنِ والسُّنَّةِ، كالحُكْمِ بَيْنَ الناسِ بالعَدْلِ، وتَطْبِيقِ
الحُدُودِ وشُكْرِ النِّعَمِ، وغَيْرِ ذلك. فاتَّقُوا اللهَ
أيُّها المسلمون، واشْكُروا اللهَ الذي هَداكُم لِلإسْلامِ، وجَعَلَكُمْ
تَعَيشُونَ في بِلادِ الإسلامِ، في بلادِ الحَرَمَينِ، وتَمَسَّكُوا
بِعَقِدَتِكُمْ فإنَّها رَأْسُ مالِكُم، وعِصْمَةُ أَمْرِكُم، وكُونُوا
كالأُسْرَةِ الواحِدَةِ، والبَيْتِ الواحِدِ، مَعَ وُلاتِكُم وعٌلَمائِكُم
وإخْوانِكُم، واعْلَمُوا أَنَّ الجَماعَةَ رَحْمَةٌ، والفُرْقَةَ عَذابٌ، وأَنَ
يَدَ اللهِ مَعَ الجماعةِ. اللهم آمِنّا في دُورِنا
وأوطانِنا، وأصلح أئِمَّتَنا وَوُلاةِ أمورِنا، واحْفَظْ لَنا دِيننا، وأصْلِحْ
لنا أَمْرَ دُنْيانا، واكْفِنا شَرَّ الأَشْرارِ وَكَيْدَ الفُجَّارِ يا رب
العالمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام
راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آت نفوسنا
تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم أصلح أحوال المسلمين
حكاماً ومحكومين، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة
الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك،
اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كيد
الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم أخرجها من الفتن والشرور والآفات ومن هذا البلاء،
واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح مما كانت برحمتك يا أرحم
الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html |