التداوي وأحكامُه وحُكْمُ استعمالِ الِّلقاحِ ضِدَّ المَرَضِ
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من
شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ
له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ
ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا
بعد،
عبادَ
الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ الصِّحَّةَ تاجٌ على رُؤُوسِ الأَصِحَّاءِ، لا يَعْرِفُهُ جَيِّدًا إلا المَرْضَى. وهِيَ: ما يَتَمَتَّعُ بِه الإنسانُ مِن سَلامَةٍ
في عَقْلِهِ وَقُوَّةٍ في بَدَنِه وسَمْعِهِ وبَصَرِه. وكان النبيُّ صلى الله عليه
وسلم يُكثِرُ أَنْ يَقُولَ: ( وَمَتِّعْنِي بِسَمْعِي وبَصَرِي وَقُوَّتِي، مَا أَحْيَيْتَنِي، واجْعَلْهُ الوارِثَ مِنِّي )، لِأَنَّ ذلك مِنْ حَسَنَةِ الدنيا التي يَهَبُها اللهُ
تَعالَى لِعَبْدِه، وَلِأَنَّ العبدَ لا يَتَمَكَّنُ مِن القيامِ بِمصالِحِهِ الدينيةِ
والدنيويةِ كَما يَنْبَغِي إلا إذا كان سَلِيماً مُعافَى، فَيَنْبَغِي لِلمؤمنِ القَوِيِّ
السَّلِيمِ الْمُعافَى أَنْ يَشْكُرَ نِعْمَةَ اللهِ، فَيَسْتَغِلَّ صِحَّتَه وَقُوَّتَه
ونَشاطَه فيما يُقَرِّبُه إلى الله، وَمَنْ أرادَ مَعْرِفَةَ قَدْرَ هذِه النِّعْمَةِ
فَلْيَزُرْ المَرضَى والعاجِزِينَ عَن القيامِ بِمصالِحِهِم، فَهُمْ أَعْرَفُ الناسِ
بذلك. والمَرَضُ لا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ، ولَكِنَّهُ يَتَفاوَتُ في الشِّدَّةِ والخِفَّةِ.
وَيُصِيبُ المؤمنَ والكافرَ، والبَرَّ والفاجِرَ. لِكِنَّهم يَفْتَرِقُون في الثَّمَرَةِ.
وهُوَ في المؤمنينَ أَكْثَرُ، وهُوَ لَهُمْ كَفَّارَةٌ أَوْ رِفْعَةٌ، وامتِحانٌ لِلصَّبْرِ
والرِّضَى.
عباد الله: مَنْ أصابَه مَرَضٌ، فلا يَجُوزُ
لَه أَنْ يَجْزَعَ أَوْ يَتَسَخَّطَ، أَوْ يَظْهَرَ مِنْهُ ما يَدُلُّ على ذلك. فَإِنَّ
ما أَصابَه إِنَّما هو بِقضاءِ اللهِ وقَدَرِه، فَلْيَصْبِرْ وَلْيَحْتَسِبْ وَلْيُبْشِرْ
بِالثَّوابِ مِن اللهِ. ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعالى قَدْ فَتَحَ لِعِبادِهِ
بابَ التَّداوِي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَا أَنْزَلَ اللهُ داءً إلَّا
أَنْزَلَ لَهُ شِفاءً )، رواه البخاريُّ مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه. وفي مُسْنَدِ
أحمدَ مِن حديثِ أسامةَ بنِ شَرِيكٍ: ( عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَه
). وفي رِوايةٍ: ( إِلَّا داءً واحِدٍا. قالوا يا رسولَ اللهِ: ما هُو؟ قال الهَرَمُ
).
وأَعْظَمُ الأَدْوِيَةِ، هي الأدويةُ النَّبَوِيَّةُ، وهي قَوَّةُ التَّوَكُّلِ، وَكَثْرَةُ قِراءَةِ القُرآنِ، والذِّكْرِ، والاسْتِغْفارِ، والصَّدَقَةِ خاصَّةً صدقةَ السِّرِّ، وإغاثةِ المَلْهُوفِ، وبَذْلِ الإحسانِ لِعبادِ
الله. فَإِنَّ هذه أعمالٌ عظيمةُ يَحْصُلُ للمؤمنِ بِسَبَبِها السلامةُ مِن الشُّرُورِ، ويَقِيهِ اللهُ بِسَبَبِها الهَلَكاتِ ومَصارِعَ السُّوءِ.
ومِن ذلك: التَّداوِي بالرُّقْيَةِ الشرعيةِ:
سَواءً كانت مِنْ الغَيْرِ أَوْ رُقْيَةِ الإنسانِ نَفْسَه وهِي أَفْضَلُ.
ومِنْ ذلك: التَّداوِي بِالأدْوِيَةِ المَادِّيَّةِ
المُباحَةِ، كالعِلاجاتِ النَّبَوِيَّةِ المَنْصُوصِ عَلَيْها، وَهِي العَسَلُ، وماءُ
زَمْزَمَ، والكَّيُّ، والتَصَبُّحُ بِسَبْعِ تَمَراتٍ، والحَبَّةُ السَّوْداءُ، والقِسْطُ
الهِنْدِيُّ. أَو التَّداوِي بالأعشابِ والعقاقِيرِ والأَدْوِيَةِ المُجَرَّبَةِ المُباحَةِ.
فإنَّ التَداوِي بِها مُباحٌ، ولا يُنافي التَوَكُّلَ عَلى اللهِ، سَواءً كانَ اسْتِعْمالُها
بَعْدَ الإصابَةِ بالمَرَضِ، أَو أَيْضًا قَبْلَ الإصابَةِ بِالمَرَضِ، مِنْ بابِ الوِقايَةِ، كَمَن يَتعاطَى بَعْضَ اللقاحاتِ لِتَوَقِّي بَعْضِ الأمْراضِ، مِثْلُ إبَرِ الإنْفِلِوَنْزا
المَوسِمِيةِ، أَو الحساسِيَّةِ، أَو غَيْرِ ذلك، فإنه مُباحٌ، وداخِلٌ في حِفْظِ النَّفْسِ
البَشَرِيَّةِ وحِمايَتِها، بِشَرْطِ أن تَتَناسَبَ مَعَ حالَتِهِ الصِّحِّيةِ.
ومِن أعظمِ الأدويةِ: التَّداوِي بِكَثْرَةِ
الدعاءِ، فَإِنَّ المَريضَ حَتى لَو كانَ مَرَضُه مُسْتَعْصِيًا، قَدْ يَسْتَغْنِي
عن استعمالِ الدواءِ أو الذهابِ إلى الأَطِبَّاءِ، ويَكْتَفِي بالدعاءِ مَعَ تَحَرِّي
أوقاتِ الإجابةِ فَيَشْفِيهِ الله، مَهْما كان مَرَضُه، حَتى لَو كانَ سِحْرًا أَو عَيْنًا أَوْ مَسًّا، فإنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السلامُ ، شفاهُ اللهُ مِن الضُّرِّ ومَسِّ
الشَيطانِ وعذابِهِ وأذِيَّتِه، بالدعاءِ، كَما قال تعالى: ( وأَيُّوبَ إذْا نادى رَبَّه
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّحِمِين * فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنَا
ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم؛ وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ
اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ
إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ
الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّه لا يَجُوزُ التداوِي بالحرامِ، بِأَيِّ
حالٍ، لِأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( تَدَاوَوْا عِبادَ اللهِ ولا تَتَدَاوَوْا
بِحَرامٍ ). وقال عليه الصلاة والسلام: ( إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفاءَ أُمَّتِي
فيما حَرَّمَ عَلَيْها ). فَمِا دامَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم قال ذلك، فَلا يَجُوزُ
لِمُسْلِمٍ فِيما يَتَعَلَّقُ بالدواءِ، أَنْ يَقُولَ أَلْجأَتْنِي الضَّرُورَةُ. وَأَمَّا
قاعدةُ: ( الضَّروراتُ تُبيحُ المَحْظوراتُ )، فَلَيْسَت عامَّةً في جَميعِ المَحْظُوراتِ، ولو كانَ الأَمْرُ كذلك، لَفَسَدَتْ الأَرضُ، ولَهَلَكَ كُلُّ مَنْ عَلَيْها، ولَأَصْبَحَ
الإنسانُ يُجِيزُ لِنَفْسِهِ كُلَّ ما يَرَى أَنَّه مُضْطَرٌّ إليه، مِن قَتْلٍ وزِنًا
وسَرِقَةٍ ورِبا، وغَيْرِ ذلك، بِحُجَّةِ الضَّرُورةِ، مَعَ العِلْمِ أَنَّ قَوْلَه
تَعالى، ( فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ )، نَزَلَ فٍيمَن اضْطُرَّ إلى الطَّعامِ
المُحَرَّمِ وخَشِيَ الهلاكَ. ولذلك يُشْتَرَطُ في الضَّرُورَةِ أَنْ لا تَكُونَ المَفْسَدَةُ
الحاصِلَةُ مِن فِعْلِها أَشَدَّ أَوْ مُساوِيَةً لِمَفْسَدَةِ عَدَمِ فِعْلِها، كَمَنْ
يُكْرَهُ على القَتْلِ أو الزِّنا، فَلا يُباحُ واحِدٌ مِنْهُما، إِذْ لَيْسَ نَفْسُ
القاتِلِ وَعِرْضُهُ أَوْلى مِنْ نَفْسِ المَقْتُولِ وعِرْضِهِ. وكذلك يُشتَرَطُ في
الضَّرورَةِ أن لا تَكُونَ سَبَبًا في إسقاطِ حُقُوقِ المُؤمِنِين، لأنَّ الضَّرَرَ
لا يُزالُ بِمِثْلِهِ. وكذلك أَنْ لا تَكُونَ بابًا مِنْ أبوابِ فسادِ دينِ المَرْءِ
وعَقيدَتِه. والكلامُ عن هذه القاعِدَةِ بالتَفصيلِ، مَحَلُّه كُتُبُ الفِقْهِ والأصولِ، ولِكِنَّ الذي يَجِبُ مَعْرِفَتُه هُنا، أَنَّه لَيْسَ كُلُّ ضَرورةٍ تُبيحُها المَحظوراتِ.
اللهم علمنا ما يَنْفَعُنا
وانفَعْنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم
اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا
بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح
أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً
وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم
فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك،
اللهم وفقهم بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك, وارزقهم البطانة الصالحة
الناصحة، اللهم حبّب إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله وبصّرهم بأعدائهم يا
ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة
وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم
بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا
إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت،
أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين،
اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير
آجل، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت، اللهم أنزل علينا
من السماء ماء مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به الحاضر والباد، اللهم إنا
نستغفرك ونتوب إليك، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك من جميع ذنوبنا، اللهم أغثنا، اللهم
أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|