خطبة: الدعوة إلى الله والتحذير من جماعة التبليغ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، عبده المصطفى ونبيه المجتبى، فالعبد لا يُعبد كما الرسول لا يُكذب، فاللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلف من إخوانه من المرسلين وسار على نهجه واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد أيها الناس: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
أيها المؤمنون: شرّف الله جل وعلا وظيفةً في هذه الدنيا ، فجعلها أشرف الوظائف وجعلها أرفع المناصب ، إنها وظيفة الدعوة إليه سبحانه وتعالى حيث قال جلا وعلا مبيّناً شرفها وفضلها (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
والنبي r بل وأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام ، هم الذين قاموا بهذه الوظيفة ، وقاموا بهذه المهمة خير قيام فكانوا أشرف عباد لله بشرف المسؤولية التي تحملوها ، وقد ضرب النبي r في دعوته إلى الله المنهاج الأمثل والطريق الأصوب في السير إليه سبحانه وتعالى ، فنوّه جل وعلا في هذا الطريق في قوله (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، أبان الله جل وعلا هذه السمات لهذا المنهج الإيماني ولهذا المنهج النبوي في الدعوة إليه سبحانه وتعالى فهذا السبيل هو سبيل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام ، وهذا السبيل قائم على الدعوة إلى الله وحده، لا دعوة إلى حزبيات أو جماعات أو إلى طوائف أو مِلل وإنما الدعوة إلى الله جل وعلا ؛ وتقوم الدعوة إلى الله بالدعوة إلى توحيده وحده لا شريك له والإيمان به ، نعم يا عباد الله (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ويقول جل وعلا (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) .
فغاية هذه الدعوة هي الدعوة إلى توحيد الله وإلى الإيمان به وحده وإفراده سبحانه بالعبادة دون ما شريك ، فقد جاء حديث في الصحيحين - وهذا الحديث أصل عظيم شريف من أصول منهاج الدعوة إلى الله بيّن النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذٍ حال المدعوين وبيّن منهاج الدعوة وأولوياتها بل وأرسل إلى أهل اليمن رجلاً عالماً ولم يرسل إليهم جاهلاً أو متعالماً – عن ابن عباس رضي الله عنها قال: بعث النبي r معاذاً إلى اليمن ، فقال : ( يا معاذ إنك تقدم قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم ثم ترد إلى فقرائهم ، وإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) ..
أبان النبي r في هذا الحديث الشريف عن أولويات الدعوة وأن أولى هذه الأولويات وأهمها هو:
الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا الذي هو أساس هذا الدين ، وهو معنى لا إله إلا الله معنى أن يوحدوا الله جل وعلا ؛ ثم يُثنّي بالأولوية الثانية ، وهو ماذا ؟ أن يقيموا هذه الصلوات الخمس ؛ ثم بثالثة: بأداء الزكاة، وهذه أركان الإسلام الثلاثة الأولى؛ وبيّن له حال المدعوين، والمدعوون - يا عباد الله - ممن يعرفون توحيد الله لكنهم انحرفوا فيه، ومع ذالك حدّده فيهم أمراً ومنهاجاً ودعوة؛
فكيف ممن يخالف منهاج النبي r فيدعو إلى مناهج لا تبتدئ بتوحيد الله وإنما تبدأُ بتغيير الحال أو تغيير البيئة أو غيرها ممن يسمّونه ؛ وبعضهم يقول : "يعذر بعضُنا بعضاً فيما اختلافنا فيه ، ونجتمع فيما اتفقنا عليه"، يخالفون منهجَ النبي عليه الصلاة والسلام ومنهاجَ أصحابه بالدعوة إليه سبحانه..
وإن من معالم المنهاج النبوي في الدعوة إلى الله: الدعوة بعلم وعلى بصيرة ، قال الله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)، فمن دعا إلى الله بعلم بنور مستقى من الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة فهذا السائر على منهاج النبي r في دعوته إلى الله ؛ وأما من دعا إلى الله بهوى أو دعا إلى الله بجهل أو برايات عِمّيّة وحزبيات ضيقة فقد خالف منهاج النبي r في بالدعوه إلى الله تعالى ...
وفي هذا الزمن - يا عباد الله - ظهرت أنواعٌ من الرايات وطوائف من الفرق والجماعات تدّعي أنها تدعوا إلى الله جل وعلا، فإذا عرضنا حالها أو عرضنا أولوياتها بالدعوة ومنهاجها فيه على منهاج النبي r وجدناها مباينة لذلك أعظم المباينة؛ فتجدهم في دعواتهم لا يعنون بتوحيد الله جل وعلا وتصفية العقيدة من شوائب البدعة أو شوائب الشرك أو شوائب التعلق بغير الله ويدّعون أنهم يدعون إلى الله جل وعلا.
وإذا نظرنا إلى طرائقهم وجدناهم أيضاً يدعون إلى الله جل وعلا بجهل وبغير علم يلبسون على الناس دين الله، فربما أخرجوهم من الشرك فأورثوهم البدع ، وربما أخرجوهم من المعاصي فجعلوهم في الشرك كتعلق بالأموات أو بدعاء غير الله أو باستعانة وتوسل بالأولياء والصالحين كما يدّعيه بعض هؤلاء الذين يدعون إلى الله، وفي الحقيقة إنما يدعون إلى جماعاتهم وإلى تولي مشائخهم في شرق الأرض وفي غربها، ينخدع بهم الرعاع من الناس فلا يدري ماذا يصنعون ، ولا يدري ماذا يقولون، وإنما اغتر بظاهرهم ولم ينظر إلى حقيقة أمرهم ولم يسمع إلى ما ذكره العلماء في شأنهم وحالهم ...
وأما أهل الإيمان فشأنهم أنهم يردّون الأمر إلى علمائهم ،قال الله جل وعلا (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ).
= نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وما فيه من الآيات والذكر الحكيم , أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان غفاراً .
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما أمر, وأحمده سبحانه وقد تأذن بالزيادة لمن شكر, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقراً بربوبيته ومؤمناً بألوهيته وبأسمائه وصفاته مراغماً بذلك من عاند به وكفر, وأُصلي وأسلم على سيد البشر, الشافع المشفع في المحشر, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغُرَر، خير آل ومعشر, ما طلع الليل فأقبل عليه نهارٌ وأدبر؛ أما بعد :
عباد الله : اتقوا الله عز وجل وعظِّموا دينه وعظِّموا سنة نبيه صلى الله عليه سلم ، وعظِّموا منهاجه تسعدوا في دينكم ودنياكم وتفلحوا في آخرتكم..
وأعلموا - رحمني الله وإياكم - أن كل خير فيما أمرنا به صلى الله عليه وسلم ومضى عليه من سلف من أصحابه وتابعيهم بإحسان، وأن كل شر فيما ابتدعه المتأخرون وإن زوّقوا على الناس وزبرقُوا بكلامهم أنّهم دعاة خير وإصلاح، فإن العبرة إنما هي بالحقائق؛ والعبرة هي بأن يُحَكَّمُوا على منهاجه عليه الصلاة والسلام ...
إن من المؤاخذات - يا عباد الله - على بعض المناهج الوافدة التي وفدت إلى بلادنا مما تُسمّى بالمناهج الدعوية أنها تُعْنى بتجميع الناس مِن غير أن يُنظر على ماذا يجتمعوا؟! أيجتمعوا على توحيد الله؟ أو يجتمعوا على إقامة الصلاة وأركان الإسلام؟ أم يجتمعوا على أشياء أخرى لها بأصحابها المآرب الخطيرة التي يريدون بها فت مجتمع المسلمين وجعل التوحيد والأولوية والولاء إلى غير علماء المسلمين الراسخين.
من الأخطاء المتعلقة بهذه الدعوة : بعضهم يرتّب للدعوة منهاجاً وترتيباً لم يأتِ عليه أمر الله ولا أمر رسوله r وهو ما يسمى بالخروج للدعوة إلى الله أو بتغيير البيئة بأن أُخرج ثلاثة أيام أو أربعين يوماً أو أربعة أشهر، ويجعلون هذا ترتيباً لا يحيدوا عنه، وربما استدل بعضهم بقول الله جل وعلا (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)، وهذا من جهلهم بكلام الله، بل وبجهلهم بمنهاج رسول الله r في دعوتهم إلى الله - وإن هذه الآية من أول سورة براءة : إمهال من الله جل وعلا لهؤلاء المشركين أنهم يسيحون في الأرض أربعة أشهر ، بعد البراءة منهم ، وبعدها فقد انقضت المعذرة بينهم وبين رسول الله وبين عباد الله المؤمنين.
وإن من أخطاء هؤلاء قولهم: لابد في منهاج الدعوة مِن الجُهد والخروج والتشكيل وغير ذلك ؛ وكل ذلك إذا عرضناه على السُنة البيضاء التي ترَكَنا عليها نبينا r وجدناها تخالفه أعظم المخالفة وتباينه أعظم المباينة، فنبِيّكم صلى الله عليه وسلم دعا الناس بفعله وبقوله ومنهاجه ودعا الناس بأصحابه، ومع ذلك لم يُقِم للدعوة إلى الله إلا مَن كان عالماً من أصحابه ولم يُخرِج عوام الصحابة .
فقد بعث صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن خمسة : بعث إليهم معاذ بن جبل وهو أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام؛ وبعث إليهم أبا عُبيده عامر بن الجراح وهو أمين هذه الأمة؛ وبعث إليهم علي بن أبي طالب وهو أقضى هذه الأمة؛ وبعث إليهم أبا هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي وهو أعلم هذه الأمة بحديثه عليه الصلاة والسلام؛ وبعث إلى ساحل اليمن الغربي عبدالله بن قيس أبا موسى الأشعري وهُو من علماء الصحابة رضي الله عنهم كلهم - ولم يبعث إلى الناس مَن يدعوهم مِن أهل الجهالة أو مِن قليل العلم. بل لمَّا جاءه مالك بن الحويرث وأصحابه وبقوا عنده r متعلِّمين متفقِّهين نحواً من ثلاثٍ وعشرين ليلة، أرسلهم إلى قومهم وقال ليَؤمّكم أكبركم، وأوصاهم أن يدعوا قومهم بما تعلّموه منه عليه الصلاة والسلام .
وأما قوله " بلّغوا عنّي ولو آية " : فإن هذا شأن أهل العلم الذين علِموا هذه الآية ، وعلِموا ناسخها ومنسوخها ومطلقها ومقيدها ، وعلِموا ما فيها من العلم والفقه بأن ثنوا الركب عند العلماء الموثوقين فتعلّموا عنهم العلم - هؤلاء الذين يبلّغون دين الله جل وعلا..
أما إذا بلّغَ دينَ الله أهلُ الجهل وأهل الحماسة فإنه ينتج عندئذٍ من العواقب الفاسدة، وينتج عندئذٍ من المناهج المنحرفة ما يبقى أهل العلم في تعديله وفي تقويمه سنين حتى يبيّنونه للناس.
وهذا كله - يا عباد الله - من ثمار الانحراف عن منهج النبي r وعن منهج أهل العلم...
وإن مما فشا بين بعض الناس وبين بعض العوام: إساءتهم الظن بالعلماء أنهم قعدوا في مناصبهم وعلى كراسيهم، وأنهم لم يبيّنوا دين الله جل وعلا، وأنّه لمَّا قصّر بزعمهم هؤلاء العلماء كانت المسؤولية على أمثالهم من الجُهّال، وكان من جرّاء ذلك أن ورد على المسلمين أنواع من الاعتقادات الباطلة، وأنواع من التصرفات الشائنة، وأنواع من المناهج المنحرفة التي منها تكفير هذا البلد، تكفير علمائه وولي أمره والخروج عليه بأنواع من الشُبه التي لا تنطلي إلا على أمثالهم من الجُهّال...
فاتقوا الله - عباد الله - واستقيموا على أمره، وعليكم بمنهاج نبيه r ومنهاج أصحابه مِن بعده والتابعين لهم بإحسان في دعوتهم إلى الله، ولا تحيدوا عن ذلك ، واحذروا هذه المناهج الوافدة التي وفدت علينا عبر هذه الوسائل المختلفة وعبر أناس أُحسِنَ بهم الظن وفي حقيقتهم يحملون لهذه الأمة ولهذا البلد ولعلمائه المكيدة - كفانا الله وإياكم والمسلمين شرهم.
ثم اعلموا - رحمني الله وإياكم - أن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل مُحْدَثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وعليكم - يا عباد الله - بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ، ومَن شذَّ شذ في النار ، ولا يأكل الذئبُ من الغنم إلا القاصية...
= اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ؛ اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك ... إلى آخر الدعاء