(( خطبة جمعة / بمناسبة يوم عاشوراء))
الحمد لله الذي قدر فهدى * وأخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى , أحمد ربي حمدا يليق بجلاله , وعظيم سلطانه , واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له , تعظيما لشأنه , واشهد أن محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه , صلى الله عليه وعلى آله , وصحابته وأتباعه , وسلم تسليما كثيرا إلى يوم لقاءه .
أما بعد فأوصيكم – أيها المسلمون - ونفسي بقوى الله , فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون .
عباد الله : بعد أيام قليلة من هذا اليوم يحل يوم عاشوراء ضيفا عزيزا على قلب كل مسلم , إذ أنه يحمل معه من الخير الشيئ الكثير , من نظر الى هذا اليوم وما يتعلق به من جميع الجوانب الدينية والدنيوية ليجد ان مقاما كهذا منبر خطبة جمعة واحدة لا يستطيع المتحدث أن يأتي على كل ما يريد فيما يتعلق بهذا اليوم , ولكن من دلف رويدا الى المهمات فقد يقارب شيئا ما الى البغية والهدف , من هذا المبدأ – أيها الإخوة – نقف وإياكم اليوم على ما نرجوا فيه النفع والفائدة , فالله جلى وعلا له الحكمة البالغة فيما يختار من إيقاع المقدور حيث الزمان والمكان , ( والله يحكم لا معقب لحكمه ), في اليوم العاشر من شهر الله المحرم أي في مثل هذا الشهر المبارك حدث في الكون حدث غير مجرى التاريخ , ووجه الحياة , إذ كان ذلك اليوم فيه فصل خصومة دامت عشرات السنين , بين الحق والباطل , تزعم فيها الباطل أشقى الناس – فرعون - عليه من الله ما يستحق , وولي الحق فيها اسعد الناس – موسى وهارون – عليهما وعلى نبينا محمد صلوات ربي وسلامه 0 فكانت الدوائر على الباطل وأهله , والنصرة للحق وأهله , لم يرد في كتاب الله تكرار شيئ بكثرة كقصة موسى مع فرعون , فإن أكثر الأنبياء ذكر باسمه في القرآن هو موسى عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام ، وقد تكرر اسمه في القرآن ستا وثلاثين ومائة مرة، ، ولعل من حكم تكرار اسمه في القرآن أن الله تعالى فصّل في حياة موسى ما لم يفصل في حياة الأنبياء الآخرين، فقد ذكر مراحل حياته منذ الطفولة، وما تعرض له من الفتون، وأمر أمه برضاعه , ووضعه في التابوت , وإلقائه في البحر، ثم ذكر رضاعها له بعد الوصول لبيت فرعون، ثم ذكر مراحل من شبابه ومنها : قصته مع الرجلين , وذهابه لمدين , ومكثه فيها , وبعثته بعد ذلك، وفصّل في دعوته للكفار وهم الأقباط , ودعوته للمتدينين المنحرفين وهم بنو إسرائيل ، وذكر هلاك فرعون وقومه وقصته مع السحرة , ثم معاناته مع قومه بعد عبورهم البحر , وبعد عبادتهم العجل , وبعد تحريضهم على الذهاب للأرض المقدسة , إلى غير ذلك، ولعل أيضاً من أسباب تكرار قصة موسى مع فرعون أكثر من غيرها ، وجود التناسب الكبير بين شريعة موسى وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبين كتابيهما , ولهذا يكثر في القرآن ذكر موسى وكتابه , وبعده ذكر القرآن العظيم . كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ* وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ 0 قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ولهذا يذكر الله سبحانه وتعالى قصة موسى عليه السلام ويعيدها ويبديها ويسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يناله من أذى الناس: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر . فتأمل هذا التناسب بين الرسولين والكتابين , الشريفين 0انتهى 0 لما أراد الله إنهاء الصراع الدائر بين الحق والباطل هيأ لذلك الأسباب ففي اليوم العاشر من شهر الله المحرم عزم فرعون على القضاء على موسى وقومه , فأتبعوهم مشرقين , بعد ان أخرجه الله من تلك الجنات والعيون , (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) , فهنا وعند الابتلاء يتمحص الإيمان الراسخ من ضده , وتتبين الأمور على حقيقتها , فسنت الله تأبى الا وأن تظهر الحقائق , طالت الأيام أم قصرت , قال موسى مقولة الواثق بنصر الله الموقن بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا : (كلا إن معي ربي سيهدين ) فجاء الغوث والنصر المبين ( فأوحينا اليه ان اضرب بعصاك البحر فنقلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) وأزلف الله فرعون وقومه على آثارهم ( وأزلفنا ثم الآخرين ) وحينها وعلى ثبج البحر,الماء السيّال , الذي افتخر فيه فرعون من قبل بقوله ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) وبعد أن تكامل موسى وقومه خارجين , وتكامل فرعون وملؤه وقومه داخلين , أمر الله البحر بأن يعود على حاله الأول , فكان من خبرهم ما قص الله علينا في كتابه , أجسادهم للغرق وأرواحهم للحرق ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون اشد العذاب ) ونجا الله فرعون بجسده ليكون لمن خلفه آية .
تحدونا هذه القصة – أيها الإخوة - إلى الرجوع إلى كتاب ربنا وسنت نبينا , ودراسة سير الأنبياء وقصصهم , وأخذ الدروس والعبر , واليقين التام بأن الله لم يخلقنا عبثا ولم يتركنا سدا , وأن التاريخ وكما قيل لا يرحم ,يقيد الشاردة والواردة , والدقيقة والجليلة , وكما كان لغيرك تاريخ ناشر , إما غابر, وإما عاطر , فسيكون لك مثله , فأين أنت من بصمات الخير على صفحات الحيات , وماذا ستقول الأجيال عنك بعد الممات , أدرك - أخي المسلم - تاريخك قبل الفوات , واكتبه بمداد الصبر واليقين , والنفع لعباد الله وكن من المخلصين .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يملون )
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من ذنب وخطيئة , فاستغفروا ربكم يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم 0
الخطبة الثانية
الحمد لله العلي الأعلى , رفيع الدرجات العلى , الرحمن على العرش استوى , واشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى , واشهد أن محمد عبده ورسوله المصطفى , صلى الله عليه وعلى آله وصحابته النجبا , وعلى التابعين ومن تبعهم الى اليوم اللقاء 0 أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله 0
أيها الاخوة المسلمون : تناسب عند النعم إحداث الشكر ولذلك شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سجدة الشكر عندما يمن الله على العبد بنعمة , وقد كان ذلك دأب الأنبياء من قبل , فلما أنجى الله موسى وقومه من كيد فرعون وملئه كان من شكر الله على موسى أن يصوم ذلك اليوم فصامه , وكان صيام ذلك اليوم مما تناقله أهل الكتاب الى وقت النبي صلى الله عليه وسلم , فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كان يصومه مفردا , ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليوهد يصومون هذا اليوم فسألهم عن ذلك فقالوا هذا يوم عظيم : نجى الله فيه موسى وقومه ,وأهلك فرعون وقومه , فقال صلى الله عليه وسلم نحن احق وأولى بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه 0 وكان علم النبي بما يفعله اليهود من الصيام في آخر حياته ولذلك لما علم بفعلهم أراد مخالفتهم فقال عليه الصلاة والسلام لان بقيت إلى قابل لأصومن التاسع , فلم يأتي العام القبل الا وقد قبض عليه الصلاة والسلام .
وقد جاء في فضل صيام يوم عاشوراء أنه يكفر صغائر الذنوب للسنة الماضية , فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله .
وهنا مسألة ما هو الأفضل في صوم يوم عاشوراء فإن بعض أهل العلم ذكروا ان لصيام يوم عاشوراء ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى وهى الأفضل : أن يصام يوم قبله ويوم بعده معه , المرتبة الثانية أن يصام اليوم التاسع معه , المرتبة الثالثة أن يفرد بالصيام . وبالنظر إلى الأدلة يتبين أن الأمر ليس كذلك , وإنما الأفضل وهي المرتبة الأولى : أن يصام العاشر والتاسع لقوله صلى الله عليه وسلم لان بقيت إلى قابل لأصومن التاسع . أي مع العاشر , كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما . وتكون المرتبة الثانية إفراد العاشر بالصوم لفعله عليه الصلاة والسلام . وأما صيام يوم قبله ويوم بعده معه فلا دليل عليه , ومن فعله فلا ينكر عليه لان له قدوة من أهل العلم . وتحصل المخالفة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم بصيام يوم بعده معه أي بصوم العاشر والحادي عشر كما ذكر ذلك أهل العلم .
فلنحرص – أيها الإخوة – على اغتنام الفرص , والتزود من الطاعات قبل ( أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ) .
اللهم أصلح أحوال المسلمين ............................ إلى آخر الدعاء 0
|