الْمُحافَظَةُ عَلَى
الضَّرُورِيَّاتِ السِّتِّ مِنْ السياسةِ الداخليةِ في الإسلام
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها
المسلمون: اتَّقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ دِينَ الإسلامِ دِينُ رَحْمةٍ، في
مَقاصِدِهِ العظيمةِ، وقَواعِدِهِ، وتَشْرِيعاتِهِ. فَهُوَ رَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ
والسِّلْمِ، ورَحْمَةٌ في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ،
وَرَحمةٌ في الضِّيقِ والسَّعَةِ، وَرَحْمَةٌ في الإثابَةِ والعُقُوبَةِ،
ورحمةٌ في الحُكْمِ والتَّنْفِيذِ، ورَحْمَةٌ في كُلِّ الأَحْوالِ.
وَلِتَحْقِيقِ هذِه الرَّحْمَةِ جاءَ الإسلامُ
بِحِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ السِّتِّ التي لابُدَّ مِنْها في قِيامِ مَصالِحِ
الدِّينِ والدنيا، بِحَيْثُ إذا فُقِدَت ضاعَتْ مَصالِحُ
العِبادِ والبِلادِ، وفَسَدَتْ أحوالُهُم.
وهذه الضَّرُورِيَّاتُ السِتُّ هِيَ: الدِّينُ
والنَّفْسُ والعَقْلُ والنَّسَبُ والعِرْضُ والْمَالُ. والْمُحافَظَةُ عَلَيْها هِيَ السياسةُ
الداخِلِيَّةُ الحَقِيقيَّةُ، حَيْثُ بَيَّنَتْ نُصُوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ
بالاسْتِقْراءِ أَنَّ السياسةَ الدَاخليةَ فِي الإسلامِ مَدارُها عَلَى سِتِّ
جَواهِرَ:
الأولى: الدِّينُ: حَيْثُ جاءَ الإسلامُ بالْمُحافَظَةِ عَلَيْه وذلك
بِنَشْرِ العقيدةِ السَّلَفِيَّةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ القرآنِ والسُّنَّةِ، وما
كان عليهِ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم، في الْمَسْجِدِ والْمَدْرَسةِ والجامعاتِ.
وَيَكُونُ
بِحِمايَةِ الْمُجْتَمَعِ الْمسلمِ مِنْ كُلِّ فِكْرٍ دَخِيلٍ يَضُرُّ بِعَقِيدَةِ
الْمسلمين، وبِمُعاقَبَةِ مَنْ يَدْعُو إلى ذلك.
وَيَكُونُ
بِقَتْلِ مَنْ ارْتَدَّ عَن الإسلامِ لِقَوْلِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوه ). وَيَدْخُلُ في ذلك: مُحارَبَةُ الْمُشَعْوِذِينَ، والْمُشْتَغِلِينَ
بالكَهانَةِ والسِّحْرِ وادِّعاءِ مَعْرِفَةِ الْمُغُيَّباتِ،
وتَطْهِيرِ المُجْتَمَعِ مِنْهُم.
الجَوْهَرَةُ الثانية: الأَنْفُسُ: فَقَدْ جاءَ الإسلامُ بالْمُحافظةِ عَلَيْها،
فَشَرَعَ اللهُ القِصاصَ زَجْرًا لِمَنْ سَوَّلَتْ لَه نَفْسُهُ بِالقَتْلِ،
وحِمايَةً لِدَمِ الْمسلمِ. قال تعالى: ( كُتِبَ
عَلَيْكُم القِصاصُ فِي القَتْلَى )، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ( زَوالُ الدنيا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ). وَنَهَى الشارعُ الحكيمُ عَنْ قَتْلِ الْمسلمِ
نَفْسَه، أوْ
فِعْلِ ما يُؤَدِّي إلى هَلاكِها، وما ذاكَ إلَّا لِضَرُورَةِ حِفْظِ الأَنْفُسِ
والتَنْبِيهِ عَلى مَكانَتِها في الإسلامِ، ولِذلكَ أَمَرَ اللهُ بِأَخْذِ الحذَرِ،
وعَدَمِ إلقاءِ الأيْدِي إلى التَهْلُكَةِ، فقال: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ )، وقال سبحانه: ( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الأَخْذِ
بِأَسْبابِ السلامَةِ، وتَعَلُّمِ طُرُقِ إِنْقاذِ النَّفْسِ
وإِسْعافٍها، مِنْ خِلالِ التَدَرُّبِ عَلى ذلك، أَو
الاسْتِفادَةِ مِنْ أَهْلِ الاخْتِصاصِ الْمَوثُوقِين.
وَيَدْخُلُ في الْمُحافَظَةِ عَلى الأنْفُسِ: حِمايَةُ البِلادِ والمُجْتَمَعِ مِنْ كُلِّ
ما يُخِلُّ بِأَمْنِها، وَيُفارِقُ الجَماعَةَ،
وَيَنْشُرُ الرُّعْبَ والخَوْفَ في الْمُجْتَمَعِ، وَيَتَسَبَّبُ في تَرْوِيعِ الآمِنِينَ
وَسَفْكِ دِمائِهِم.
الجَوْهَرَةُ الثالثةُ: العُقُولُ: حَيْثُ جاءَ الإسلامُ بالْمحافظةِ عَلَيْها،
وذلك بِتَحْرِيمِ جَمِيعِ ما يَضُرُّ عَقْلَ الْمُسلمِ، وَمِن ذلكَ: قَوْلُهُ صلى
اللهُ عليه وسلم: ( ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ
فَقَلِيلُهُ حَرامٌ )،
وَأَمَرَ الشارِعُ بِجَلْدِ شارِبِ الخَمْرِ. وأَخْطَرُ مِنْ الخُمُورِ:
اسْتِعْمالُ الحَشِيشِ والْمُخُدِّراتِ.
الجَوْهَرَةُ الرابعةُ: الأَنْسابُ: ولِلْمُحافَظَةِ عَلَيْهَا حَرَّمَ اللهُ
الزِّنا،
وَأَمَرَ بِجَلْدِ الزانِي البِكْرِ وَرَجْمِ الزانِي الْمُحْصَنِ، وسَدَّ جَمِيعَ
الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إلى الزِّنا، وذلك أَنَّ اللهَ تَعالَى أَمَرَ بِالحِجابِ
وَنَهَى عَن الخَلْوَةِ بالْمَرْأَةِ الأجنبيةِ وَلَوْ كانَت مِن الأقارِبِ،
وَنَهَى عَنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَأَمَرَ النِّساءَ
بِالقَرَارِ في البُيُوتِ، وَأَمَرَ بِغَضِّ البَصَرِ، ونَهَى الْمَرْأَةَ
عَنْ الخُضُوعِ بِالقَوْلِ، وتَمْيِيعِ الكَلامِ، حَتَّى لا يَطْمَعَ مَنْ في
قَلْبِهِ مَرَضٌ. فَلا يَجُوزُ التساهُلُ في ذلكَ، لأَنَّه بابٌ خَطَيرٌ،
وسَبَبٌ لانْتِشارِ الفَواحِشِ والفَسادِ.
ومِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحِفْظِ الأنْسابِ: أَمْرُ الشبابِ بِالزَّواجِ،
لأنه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ. مَعَ تَعاوُنِ الْمُجْتَمَعِ
عَلَى تَيْسِيرِ الزَّواجِ وأَسْبابِهِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً
. أَمّا بَعدُ
عِبادَ اللهِ: الجَوْهَرَةُ
الخامِسَةُ: الأَعْراضُ:
وَلِأَجْلِ الْمُحافَظَةِ عَلَيْها، حَرَّمَ اللهُ الغِيبَةَ والبُهْتَانَ
وإِلقاءَ التُّهَمِ جُزافًا، وَنَهَى عَنْ تَتَبُّعِ العَوْراتِ،
ونَهَى عَنْ القَذْفِ، وَشَرَعَ اللهُ جَلْدَ القاذِفِ إذا
لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ ثَمانِينَ جَلْدَةً.
الجَوْهَرَةُ السادسةُ: الأَمْوالُ: ولِأَجْلِ الْمُحافظةِ عَلَيْها حَرَّمَ اللهُ
أَخْذَ الرَّشْوَةِ، وَنَهَى عَن الْمُعامَلاتِ الْمَبْنِيَّةِ
عَلَى الغَرَرِ والجَهَالَةِ والْمُخاطَرَةِ، أو الخِداعِ والتَّغْرِيرِ،
وَحَرَّمَ اللهُ أَكْلَ الرِّبَا، وَكذلكَ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السارِقِ.
فَتَبَيَّنَ مِن ذلكَ: أَنَّه مِن الواضِحِ أَنَّ اتِّباعَ الكِتابِ والسنة،
كَفِيلٌ لِلْمُجْتَمَعِ بِجِمِيعِ مَصالِحِهِ الداخِلِيَّةِ والخارِجِيَّة، ( وَلَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ ).
اللهم علمنا ما يَنْفَعُنا وانْفَعْنا بِما عَلَّمتَنا. اللهم
وَفِّقْنا لِلْعَمَلِ بِكتابِك وسنةِ نبيِّك على الوجهِ الذي يُرْضيك عَنَّا يا رب
العالمين، اللهم
خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا
بالصالحين، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم أصلح أحوال المسلمين،
اللهم أنزل على الْمسلمين رحمة عامة وهداية عامة، اللهم ارفع البلاء عن الْمستضعفين
من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين،
اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم أخرجها من الفتن والشرور والآفات ومن هذا
البلاء، واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح مما كانت، اللهم
أصلح ولاة أمرنا، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك، وارزقهم
البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، (وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|