(( خطبة جمعة عن العام الهجري الجديد ))
الحمد لله مولج الليل في النهار , ومولج النهار في الليل , ( لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) خلق خلقه فأوجده , وشرع شرعه فأحكمه , لا لشيء سوى أن يعبدوه وحده لا شريك له , وأشهد ألا إله إلا الله وحده , وأشهد أن محمد عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليما كثيرا 0 أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله , وخير الهدي هدي رسول الله 0
أيها الإخوة المسلمون : عام أفل وآخر أطل , تتوالى الأيام والليالي على هذا الكون , وتذهب سراعا , وحقيقتها أنها مطايا لسفر قسري ليس للمرء عنه مفر, وما منه مخرج , فالعقلاء يدركون هذه الحقيقة , فلا تراهم لهذه المطايا إلا مما يفيد وينفع محملين , ومن الخير متزودين , وللشر قالين , وعنه معرضين , تتعالى أصوات الخطباء والدعاة والوعاظ والمصلحين , في نهاية عام وحلول الآخر, متسائله :
بماذا ودعنا عامنا المنتهي , وبماذا نستقبل عامنا المبتدي ؟
وحق لكل مسلم بل لكل إنسان عاقل أن يتسائل هذا السؤال , ليس فقط في نهاية العام وبداية عام , بل عند ذهاب كل ساعة وبداية أخرى ,
يجيب العقلاء في قرارة أنفسهم قائلين :
لقد والله فرطنا فيما مضى , ويعِدون أنفسهم بتصحيح المسار والإفادة من الوقت فيما يستقبلون من أيامهم ولياليهم , وتبقى مرحلة التنفيذ رهينة الوعد , فمن صدق صُدق معه , ومن كذب فإن الله لا يهدى من هو كاذب كفار , التحسر على ما مضى دون إحداث توبة تجاه الذنب , أو تدارك خطأ يمكن تصحيحة , هو مما يعيق عن التقدم , ويبقي على البكاء على أطلال الماضي ,
ولذا – أيها الاخوة – فالواجب على الجميع في بداية هذا العام : النهوض بالهمم الى معالي الأمور , واخذ العهود على النفس بعدم التكاسل , والاستزادة من كل ما يفيد وينفع من أمور الدين والدنيا , والعزم على تنفيذ النوايا الحسنة والإخلاص في ذلك لله , واستغلال الفرص المتاحة للعبد في هذه الدنيا قبل قبل فوات الاوان 0
واسمعوا الى هذا الحديث العظيم , الجامع الفيد! روى الحاكم وغيره وصححة الالباني رحمة الله على الجميع عن بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه : " اغتنم خمسا قبل خمس , شبابك قبل هرمك , وصحتك قبل سقمك , وغناءك قبل فقرك , وفراغك قبل شغلك , وحياتك قبل موتك " قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله : " يعني أن هذه الخمس أيام : الشباب , والصحة , والغنى , والفراغ , والحياة , هي : أيام العمل والتأهب والاستعداد , والاستكثار من الزاد , فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها , ولا ينفعه التمني للأعمال , بعد التفريط منه والإهمال في زمن الفرصة والإمهال , فإن بعد كل شباب هرما , وبعد كل صحة سقما , وبعد كل غنى فقرا , وبعد كل فراغ شغلا , وبعد كل حياة موتا , فمن فرط في العمل أيام الشباب لم يدركه في أيام الهرم , ومن فرط فيه في أوقات الصحة لم يدركه في أوقات السقم , ومن فرط فيه في حالة الغنى فلم ينل القرب التي لم تنل إلا بالغنى لم يدركه في حالة الفقر , ومن فرط فيه في ساعة الفراغ لم يدركه عند مجيء الشواغل , ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات , فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات , ويطلب الكرة وهيهات , وحيل بينه وبين ذلك , وعظمت حسراته حين لا مدفع للحسرات ، ولقد حثنا الله عز وجل أعظم الحث وحضنا اشد الحض ودعانا إلى اغتنام الفرص في زمن المهلة , واخبرنا أن من فرط في ذلك تمناه وقد حيل بينه وبينه , إذ يقول تعالى في محكم كتابه , داعيا عباده إلى بابه , يا من يسمع صريح خطابه , ويتأمل لطيف عتابه : (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين )) وقال تعالى (( فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله)) وقال تعالى )) استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير )) 0 انتهى كلامه رحمه الله 0
فلنتقي الله – ياعباد الله – ولندرك ما نحن فيه من النعم قبل حلول الصوارف والنقم , وحينها نندم , ولات ساعت مندم 0
بارك الله لي ولكم في القول والعمل , وجنبنا الغفلة والتهاون عن الخير والكسل . وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة, فاستغفروا ربكم وتوبوا إليه , إنه هو الغفور الرحيم 0
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * ولي الصالحين القائل في كتابه المبين (( وما بكم من نعمة فمن الله )) وأشهد أن لا إله الا الله , وأشهد أن محمد رسول الله , صلى الله عليه وعلى آله وصحابته , وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين 0 أما بعد : فاتقوا الله عباد الله 0
أيها الاخوة المسلمون :
فإن شهر الله المحرم من الأشهر الحرم التي جعلها الله تعالى فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " متفق عليه. قال القرطبي رحمه الله : خص الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان، كما قال تعالى :{ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج } 0
وهو من أعظم شهور السنة , عظمه الله وشرفه من بين سائر الشهور وأضافه إلى نفسه تشريفا له وإشارة إلى أنه حرمه بنفسه وليس لأحد من الخلق تحليله.
وقد كانت العرب تعظمه في الجاهلية وكان يسمى بشهر الله الأصم من شدة تحريمه .
وقد رجح طائفة من العلماء أن محرم أفضل الأشهر الحرم . والصوم في شهر الله المحرم من أفضل التطوع , فقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم , وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل " . وهذا محمول على التطوع المطلق أما التطوع المقيد كصيام ست من شوال وغيره , فهذا أفضل من صوم محرم لأنه يلتحق بصوم رمضان فهو بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة , والسنة الراتبة مقدمة على النافلة المطلقة في باب العبادة . وكذلك صوم عرفة وغيره من السنن الرواتب أفضل من التطوع في محرم .
فعلينا – أيها الاخوة – استغلال أيام هذا الشهر ولياليه بالأعمال الصالحة من صيام نهاره وقيام ليله , ولعل ما يساعد على ذلك أنه جاء في وقت الشتاء , إذ طول الليل وقصر النهار0أخرج النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير , وأي الأشهر أفضل؟ فقال: (خير الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم)0
وفي هذا الشهر يوم عاشوراء , ويحتاج الى حدث مستقل , عل الله ان ييسر ذلك فيما نستقبل من أيامنا 0
فاتقوا الله عباد الله , وأجمعوا أمركم على العمل الصالح , وأخلصوه لله, وأنيبوا الى ربكم وأسلموا له 0
اللهم أصلح أحوالنا والف بين قلوبنا ................. الى آخر الدعاء 0
|