للغافلين بانتهاء السنين
الحمد لله المعروف بالقدم قبل وجود الموجود ، الموصوف بالكرم والفضل والجود ، المنزه عن الآباء والأبناء والجدود .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، تقدس عن الصاحبة والوالد والمولود .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صاحب اللواء المعقود والحوض المورود ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله U بفعل أوامره ، وبالبعد عما نهاكم عنه ، فهي وصية ربكم لكم ، ولمن كان قبلكم ، يقول تبارك وتعالى : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ : } وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ { ، } وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً { ، } وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً {
تزود من التقوى فإنك لا تدري
إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من سليم مات من غير علة
وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً
وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
أيها الأخوة المؤمنون :
عمر بن الخطاب t ، الخليفة الراشد ، الذي لا يطيق الشيطان ، المرور مع طريق مر معه ، كما أخبر بذلك النبي e في حديث البخاري : (( والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك )) . عمر بن الخطاب ـ أيها الأخوة ـ المعروف بالخوف من الله ، والتقوى والورع والعبادة ، كان t ، كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر : لا شيء مما ترى تبقى بشـاشتـُهُ
يبقى الإلهُ ويفنى المـالُ والولـدُ
لم تغنِ عن هُرْمُزٍ يومـاً خزائنـُهُ
والخلْدُ قد حاولت عادٌ فما خَلَدُوا
ولا سليمانُ إذ تجري الرياحُ لـه
والإنسُ والجن فيما بينهـا تـردُ
أيـنَ الملوكُ التي كانت لعزتهـا
من كـل أوْبٍ إليها وافِدٌ يَفِـدُ
حَوْضٌ هنالك مورودٌ بِلا كَذِبٍ
لابُدَّ من وِرْدِهِ يوماً كمـا وَرَدُوا
يتمثل t بهذه الأبيات ، على سبيل الإعجاب ، لأنها تمثل حقيقة الدنيا ، وتكشف زيفها :
أحلامُ نومٍ أو كظل زائل
إن اللبيبَ بمثلها لا يُخْدَعُ
النبي e ، يخبر عن حقارة الدنيا وهوانها ، ويقول كما في حديث ابن ماجه ، عن سهل بن سعد t ، قال كنا مع رسول الله e بذي الحليفة ، فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها فقال e : (( أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا ، وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
لقد تعلق أكثر الناس ، بهذه الدنيا الفانية الحقيرة ، فألهتهم وشغلتهم عن مستقبلهم ، وفوتت عليهم أمورا كثيرة فيها نفعهم ، أصابتهم بداء الغفلة ، فصاروا كالأنعام ، لا هم لهم إلا شهواتهم وملذاتهم ، فأكثرهم كما قال تبارك وتعالى : } لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ { . إنهم ـ والله ـ أضل من الأنعام . فالذي ينعم الله U عليه بهذه الجوارح ، ولا تكون وسيلة لهدايته ، وامتثال أمر ربه ، والعمل بسنة نبيه e ، هو أضل من الأنعام ، الأنعام أفضل منه ، يقول تبارك وتعالى : } وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { فالغافلون ـ وما أكثرهم ـ بسبب التعلق بهذه الدنيا لم يستفيدوا من جوارحهم ، بل سوف تكون وبالا عليهم ، وسببا لشقائهم وتعاستهم ، يقول تبارك وتعالى : } إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً { سوف تسأل ـ أخي المسلم ـ عن هذه الجوارح ، التي لم تدلك على الله ، وتسببت بضياعك وانحرافك وبعدك عن خالقك .
لو سلبت ـ أخي ـ هذه الجوارح ، فكنت مجنونا أعمى لا تسمع ، لرفع عنك القلم ، لن يسألك الله U عما تعمل ، وعما تقترف من المخالفات ، ولكنك تسأل وتحاسب ، لأنك تستعملها من أجل هذه الدنيا ومن أجل شهواتك وملذاتك المحرمة .
لماذا قلبك لا يعرف الخوف من الله ، إنما تستعمله لخداع الناس والاحتيال عليهم وظلمهم وحسدهم ، وعينك لما لم تستعملها بما يعينك على طاعة الله ! تتأمل بها في هذا الكون ، تقرأ بها من كتاب الله ، تسهرها في قيام الليل ، تبكيها من خشية الله ، بل لماذا تستعملها بما يغضب الله ، تنظر بها إلى ما حرم الله ، مسلسلات هابطة ، أغاني ماجنة ، نساء عاريات ، وكذلك هذا السمع ، الذي أنعم الله U به عليك ، لم تسمع به ذكر الله ، لم تسمع به المواعظ ، إنما جعلته لسماع الأغاني والغيبة والنميمة ، والأشعار الجاهلية وغير ذلك مما حرم الله .
فلتحذر ـ أخي المسلم ـ ولتستعمل نعم الله U ، بما يقربك إليه سبحانه ، وخاصة هذه الجوارح ، قبل أن يصدق عليك قول ربك U : } وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ { الذين يعطلون جوارحهم ، يلومون أنفسهم ، ويتندمون على تفريطهم ، ولكن لا ينفعهم ذلك ، قال U : } فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ {
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد أيها المسلمون :
ها نحن في هذه الأيام ، نودع عاما كاملا مضى من أعمارنا ، وكما قال بعضهم :
إن لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا
فإنما الربح والخسران في العمل
إن هذا العام الذي طويت أيامه ، هو من أعمارنا ، فكل واحد منا قد خصم من عمره عام ، وقرب إليه أجله عام ، ولذلك في تجدد الأعوام فائدة عظيمة للمسلم ، وهي أنه كلما قضى عام من أعوامه ، ضاعف جهده ، وسارع إلى مرضاة ربه .
وللأسف بعض الناس لا يكترث بمرور أعوامه ، ولا يعتبر بانصرام أيامه ، بل بعضهم بلغت به الغفلة مبلغا عظيما ، فهو لا يعرف العام إلا من أجل مصلحة دنيوية ، أو منفعة ذاتية ؛ فالسجين يفرح بانقضاء عامه ، ليخرج من سجنه ، وآخر يفرح بانقضاء عامه ، ليقبض أجرة مسكن أجره ، أو لحلول دين أجله . وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية في وظيفة ، أو لزواج أو تخرج أو نحو ذلك . ولكن الفرح في مثل هذه الأمور مع الغفلة عن النفس ، وعدم الاعتبار بمرور الأعوام ، هو في الحقيقة غبن ظاهر ـ نسأل الله السلامة والعافية .
فحري بالعاقل ، أن يتدارك أوقاته ، ويحفظها ويستغلها بما يكون له ، لا بما يكون وبالا عليه ، فالعمر قليل ، والأجل قريب ، ومهما عاش الإنسان ، فإنه لا بد له من الموت . سأل نوح ـ عليه السلام ـ وقد لبث في قومه داعيا إلى الله U ألف سنة إلا خمسين عاما ، قيل : كيف رأيت هذه الدنيا ؟ قال : كداخل من باب وخارج من آخر !
أكثر من تسعمائة وخمسين سنة ، وكأنه داخل من باب وخارج من آخر ! فكيف بنا وأعمارنا من الستين إلى السبعين !
نعم أيها الأخوة ، هذا مقدار أعمارنا ، فنحن لسنا كنوح نعيش مئات السنين ، المعمر فينا من يبلغ مائة سنه . وفي الحديث عن النبي e قال : (( أعمار أمتي )) ـ يعني نحن وأمثالنا ـ (( ما بين الستين والسبعين وأقلهم من يجوز ذلك )) . يعني الكثرة هم الذين يموتون قبل السبعين ، بالعشرين بالثلاثين بالأربعين ـ هذا معنى كلام النبي e ـ (( وأقلهم من يجوز ذلك )) الذي يعيش حتى يتجاوز السبعين قلة ، وحالة نادرة .
فاتقوا الله عباد الله ، وتداركوا أزمانكم ، واستغلوا أيامكم ، يقول النبي e : (( خير الناس من طال عمره وحسن عمله ، وشر الناس من طال عمره وساء عمله )) ، والعاقل ـ أيها الأخوة ـ لا ينغر ولا ينخدع بإمهال الله له ، ولا بما أعطاه الله ، يقول U : } أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ { .
اسأل الله U لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك أن تجنبنا سوء الفتن ، ماظهر منها ومابطن ، والزلازل والمحن ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا. اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين ، وعاف المبتلين ، واقض الدين عن المدينين ، وفرج كرب المكروبين. اللهم إنا نعوذ بك من جَهد البلاء ، ودَرَك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك ، وفُجاءة نقمتك ، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألُكَ الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرشد ، ونسألكَ شكرَ نعمتك ، وحُسن عبادتك ، ونسألك قلوبًا سليمة ، وألسنةً صادقة ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك لما تعلم.
اللهم } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|