أَهَمِّيَّةُ النِّيَّةِ
الْحَمْدُ للهِ ، الَّذِي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ ، ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ كُلُّ مُشْرِكٍ كَفُورٌ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ مَا فِي الْقُبُورِ .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ ، يَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ : ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ – جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ :
فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَمَا كَانَ فِي مَكَّةَ ، وَالْمُشْرِكُونَ يَضْطَهِدُونَ وَيُعَذِّبُونَ مَنْ أَسْلَمَ ، أَوْجَبَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَهَاجَرَ عَدَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - هَاجَرُوا فِرَارًا بِدِينِهِمْ ، وَكَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَهُ الطَّرِيقُ مَعَهُمْ ، وَلَكِنْ مُرَادُهُ وَقَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ الزَّوَاجُ ؛ مِنِ امْرَأَةٍ يُحِبُّهَا هَاجَرَتْ قَبْلَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا ، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » .
فَالنِّيَّةُ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - لَهَا دَوْرٌ مُهِمٌّ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ ، وَالْحَدِيثُ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ ، وَمِنَ الْحِكْمَةِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا ؛ تَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ ، وَمَا كَانَ للهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَمَّا كَانَ لِغَيْرِهِ ، بَلْ تَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ ، فَهَذِهِ فَرِيضَةٌ وَتِلْكَ نَافِلَةٌ ، وَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - الصِّيَامُ ؛ فَقَدْ يَكُونُ حَمِيَّةً وَقَدْ يَكُونُ قُرْبَةً . وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ ؛ قَدْ يَكُونُ تَبَرُّدًا وَنَظَافَةً ، وَقَدْ يَكُونُ عِبَادَةً كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ ، فَالَّذِي يُفَرِّقُ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ ذَلِكَ ؛ هُوَ النِّيَّةُ ، وَلِذَلِكَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ ابْنُ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ وَأَسْكَنَهُ وَوَالِدِينَا فَسِيحَ جَنَّاتِهِ - يَقُولُ : النِّيَّةُ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ ، وَمَقَامٌ عَظِيمٌ فِي أَعْمَالِكَ يَا عَبْدَ اللهِ ، الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، فَالْهِجرَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْجِهَادُ وَالْحَجُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ كُلُّهُ يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ للهِ ، وَأَنْ تَكُونَ قَصَدْتَ وَجْهَ رَبِّكَ ، تَرْجُو ثَوَابَهُ وَتَخْشَى عِقَابَهُ.
إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ : فَالْإِنْسَانُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ قَاصِدًا عَمَلًا صَالِحًا فَلَهُ أَجْرٌ . قَاصِدًا عَمَلًا سَيِّئًا ؛ فَعَلَيْهِ وِزْرٌ إِذَا فَعَلَهُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ .
وَلِأَهَمِّيَّةِ النِّيَّةِ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾، يَقُولُ ابْنُ سِعْدِيٍّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي تَفْسِيرِهِ : ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أَيْ: قَاصِدًا رَبَّهُ وَرِضَاهُ، وَمَحَبَّةً لِرَسُولِهِ وَنَصْرًا لِدِينِ اللهِ، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ ، ﴿ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ﴾ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، ﴿ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ أَيْ: فَقَدْ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي أَدْرَكَ مَقْصُودَهُ بِضَمَانِ اللهِ تَعَالَى .
فَالنِّيَّةُ مُهِمَّةٌ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ وَالصِّدْقُ فِيهَا أَهَمُّ وَأَهَمُّ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، يَقُولُ ـ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - : « مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؛ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا ، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ ، يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ . وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلَ هَذَا ؛ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ » . قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ » الْأَوَّلُ ؛ لِعَمَلِهِ ، وَالثَّانِي ؛ لِنِيَّتِهِ . يَقُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا ؛ فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ عِلْمًا ، وَلَا مَالًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلَ هَذَا ؛ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ » ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ » .
فَالنِّيَّةُ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - وَالصِّدْقُ فِيهَا ، مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ ، وَلَكِنْ يُوجَدُ مَنْ يَغْفُلُ عَنْهَا ، وَعَنْ أَهَمِّيَّتِهَا ، فَيَفُوتُ عَلَيْهِ أُجُورٌ عَظِيمَةٌ ، وَيُحْرَمُ بِسَبَبِ غَفْلَتِهِ مِنْ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةٍ ، يَقُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ » .
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاحْتَسِبُوا أَجْرَ أَعْمَالِكُمْ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ ، يَقُولُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْداللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ : « كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ؛ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ . وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ » . تَأَمَّلْ - أَخِي الْمُسْلِمُ - رِجَالًا فِي الْمَدِينَةِ ، لَمْ يُشَارِكُوا فِي الْغَزْوَةِ ، وَلَمْ يَخْرُجُوا لِلْجَهَادِ ، وَلَكِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الْغُزَاةَ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ ، وَالسَّبَبُ : نِيَّتُهُمُ الصَّالِحَةُ ، فَاللَّـهَ اللهَ ، النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ الصَّادِقَةُ.
أَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُصْلِحَ لَنَا نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا وَجَمِيعَ أَحْوَالِنَا ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا تَوْحِيدَهُ وَاتِّبَاعَ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُك الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا سُعَدَاءَ ، وَتَوَفَّنَا شُهَدَاءَ ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْأَتْقِيَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ .
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
عِبَادَ اللهِ :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من خطب الشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120