هـمَّةٌ
فَوْقَ السَّحَابِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي زَحْزَحَ هِمَمَ الْأَوْلِيَاءِ عَنِ السُّكُونِ
إِلَى الْعَاجِلَةِ ، وَشَرَحَ صُدُورَ السُّعَدَاءِ لِإِيثَارِ الْآجِلَةِ ، الْمُتَفَرِّدِ
بِالْكَمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ ، وَالْجَلَالِ وَالْبَهَاءِ ، وَالْعِزِّ الَّذِي
لَا نَفَادَ لَهُ ، سُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ كَرِيمٍ رَحِيمٍ غَفُورٍ ، يَغْفِرُ لِمَنِ
اسْتَغْفَرَ ، وَيَجْبُرُ مَنِ انْكَسَرَ ، وَيُقِيلُ مَنِ اسْتَقَالَهُ وَيُجِيبُ
سَائِلَهُ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَيْقَظَ اللهُ بِهِ قُلُوبًا
غَافِلَةً ، وَبَيَّنَ كُلَّ مُشْكِلَةٍ ، وَأَوْضَحَ حُكْمَ كُلِّ نَازِلَةٍ ، صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ صَلَاةً دَائِمَةً مُتَوَاصِلَةً ، وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ ،فَيَا عِبَادَ اللهِ :
اتَّقُوا اللهَ تعالى ، } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { وَاعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- بِأَنَّ عُلُوَّ
الْهِمَّةِ مَطْلَبٌ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ رِضَا اللهِ وَالْجَنَّةَ ، وَإِلَيْكُمْ
هَذَا -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- فِي قِصَّةِ شَاْبٍ
كَاْنَ فِيْ اَلْسَّاْبِعَةِ
عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ ، وَكَانَ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَلَكِنَّهُ ذُو هِمَّةٍ
عَالِيَةٍ ، كَانَ يُقِيمُ فِي بَنِي أَسْلَمَ مَعَ وَالِدَيْهِ بِالْقُرْبِ مِنَ
الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، سَمِعَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم، وَسَمِعَ عَنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ
، وَعَنْ حُبِّ أَصْحَابِهِ لَهُ، فَتَرَكَ غَنَمَهُ وَانْطَلَقَ إِلَى الْمَدِينَةِ
، وَهُنَاكَ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَآمَنَ بِهِ ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عز وجل، وَأَنَّهُ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ عَادَ إِلَى أَهْلِهِ وَغَنَمِهِ ، عَادَ بِجَسَدِهِ وَتَرَكَ
قَلْبَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِينَةِ . فَمَا لَبِثَ أَنِ اسْتَأْذَنَ وَالِدَيْهِ لِيَسْكُنَ
قُرْبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَوَصَلَ الْمَدِينَةَ ، وَقَابَلَهُ صلى الله
عليه وسلم بِالْبِشْرِ الَّذِي قَابَلَهُ
بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَلِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ مَا فِي يَدِهِ جَعَلَهُ مَعَ أَهْلِ
الصُّفَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ :
إِنَّهُ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ رضي الله عنه، الَّذِي
أَحَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، وَقَادَهُ حُبُّهُ لِطَلَبٍ عَظِيمٍ، هُوَ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا
لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ رضي الله عنه: كُنْتُ فَتًى حَدِيثَ السِّنِّ لَمَّا أشْرَقَتْ
نَفْسِي بِالْإِيمَانِ، وَامْتَلَأَ فُؤَادِي بِمَعَانِي الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا
اكْتَحَلَتْ عَيْنَايَ بِمَرْأَى رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم أَوَّلَ مَرَّةٍ أَحْبَبْتُهُ
حُبًّا مَلَأَ عَلَيَّ كُلَّ جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِي، وَأُولِعْتُ بِهِ وَلَعًا
صَرَفَنِي عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي ذَاتَ يَوْمٍ: وَيْحَكَ
يَا رَبِيعَةُ! لِمَ لَا تُجِرِّدُ نَفْسَكَ لِخِدْمَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم ؟! اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَيْهِ
، فَإِنْ رَضِيَ بِكَ سَعِدْتَ بِقُرْبِهِ وَفُزْتَ بِحُبِّهِ وَحَظِيتَ بِخَيْرَيِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ مَا لَبِثْتُ أَنْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى رَسُولِ
اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَوْتُ
أَنْ يَقْبَلَنِي فِي خِدْمَتِهِ فَلَمْ يُخَيِّبْ رَجَائِي، وَرَضِيَ بِي أَنْ أَكُونَ
خَادِمًا لَهُ ، فَصِرْتُ مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَلْزَمَ لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ
مِنْ ظِلِّهِ ، أَسِيرُ مَعَهُ أَيْنَمَا سَارَ، وَأَدُورُ فِي فَلَكِهِ كَيْفَمَا
دَارَ، فَمَا رَامَ بِطَرْفِهِ مَرَّةً نَحْوِي إِلَّا مَثَلْتُ وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْهِ
، وَمَا تَشَوَّفَ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَةٍ مِنْ حَاجَاتِهِ إِلَّا وَجَدَنِي مُسْرِعًا فِي قَضَائِهَا، وَكُنْتُ أَخْدِمُهُ نَهَارَهُ كُلَّهُ ، فَإِذَا انْقَضَى النَّهَارُ وَصَلَّى
الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، وَآوَى إِلَى بَيْتِهِ، أَهُمُّ بِالِانْصِرَافِ ، لَكِنِّي مَا أَلْبَثُ أَنْ أَقُولَ
فِي نَفْسِي: إِلَى أَيْنَ تَمْضِي يَا رَبِيعَةُ؟ هَلْ لَكَ مَكَانٌ أَجْمَلُ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ؟ أَوْ مَوْقِفٌ أَشْرَفُ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ؟ إِلَى أَيْنَ تَمْضِي؟ فَلَعَلَّهَا تَعْرِضُ لِلنَّبِيِّ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاجَةٌ فِي اللَّيْلِ. فَأَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ ، وَلَا أَتَحَوَّلُ عَنْ عَتَبَةَ
بَيْتِهِ، يَقُولُ رَبِيعَةُ: أَحَبَّ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم أَنْ يُجَازِيَنِي عَلَى خِدْمَتِي
لَهُ ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَالَ: (( يَا رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ )) قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: (( سَلْنِي شَيْئًا أُعْطِهِ لَكَ ))
، أَنْتَ خَدَمْتَنَا، اطْلُبْ مِنِّي حَاجَةً ، فَتَرَوَّيْتُ
قَلِيلًا ، ثُمَّ قُلْتُ: أَمْهِلْنِي يَا رَسُولَ اللهِ لِأَنْظُرَ فِيمَا أَطْلُبُهُ مِنْكَ، ثُمَّ أُعْلِمُكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : (( لَا بَأْسَ عَلَيْكَ )) وَكُنْتُ يَوْمَئِذٍ شَابًّا فَقِيرًا لَا أَهْلَ لِي وَلَا مَالَ وَلَا
سَكَنَ، وَإِنَّمَا كُنْتُ آوِي إِلَى صُفَّةِ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَدْعُونَنَا بِضُيُوفِ الْإِسْلَامِ،
فَإِذَا أَتَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ بِصَدَقَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم بَعَثَ بِهَا كُلِّهَا إِلَيْنَا؛
لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ أَبَدًا، أَمَّا الْهَدِيَّةُ فَيَأْكُلُ
مِنْهَا، وَيُهْدِي بَعْضَهَا ، فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي أَنْ أَطْلُبَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا، يُزَوِّجُنِي ، وَأَطْلُبُ بَيْتًا، وَأَغْتَنِي بِهِ مِنْ
فَقْرٍ، وَأَغْدُو كَالْآخَرِينَ ذَا مَالٍ وَزَوْجٍ وَوَلَدٍ ، لَكِنِّي مَا لَبِثْتُ أَنْ قُلْتُ : تَبًّا لَكَ يَا رَبِيعَةَ بْنَ كَعْبٍ ، إِنَّ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ ، وَإِنَّ لَكَ فِيهَا رِزْقًا كَفَلَهُ
اللهُ عز وجل، فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَكَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ رَبِّهِ، فَلَا يُرَدُّ مَعَهَا طَلَبٌ، فَاطْلُبْ
مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ لَكَ مِنْ فَضْلِ الْآخِرَةِ، فَالدُّنْيَا لَا
قِيمَةَ لَهَا ، فَطَابَتْ نَفْسِي بِذَلِكَ، وَاسْتَرَاحَتْ لَهُ، ثُمَّ جِئْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي: (( مَا تَقُولُ يَا رَبِيعَةُ؟ )) قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ أَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ لِي اللهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنِي رَفِيقًا لَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ صلى الله
عليه وسلم: (( مَنْ أَوْصَاكَ بِذَلِكَ؟ )) قُلْتُ : لَا ، وَاللهِ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّكَ حِينَمَا
قُلْتَ لِي : سَلْنِي أُعْطِكَ، حَدَّثَتْنِي نَفْسِي أَنْ أَسْأَلَكَ شَيْئًا مِنْ
خَيْرِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ مَا لَبِثْتُ أَنْ هُدِيتُ إِلَى إِيثَارِ الْبَاقِيَةِ عَلَى الْفَانِيَةِ ، فَسَأَلْتُكَ أَنْ
تَدْعُوَ اللهَ لِي أَنْ أَكُونَ رَفِيقَكَ فِي الْجَنَّةِ ، فَصَمَتَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم طَوِيلًا ، ثُمَّ قَالَ : (( أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا رَبِيعَةُ؟ )) قُلْتُ : لَا يَا رَسُولَ اللهِ ، فَمَا أَعْدِلُ بِمَا سَأَلْتُكَ
شَيْئًا ، مَا أُرِيدُ إِلَّا الَّذِي سَأَلْتُكَ . فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ لِي : (( إِنِّي فَاعِلٌ ، فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ
)) .
اللهُ أَكْبَرُ . . إِنَّ الْهِمَمَ لَتَصْغُرُ أَمَامَ هَذِهِ الْهِمَّةِ الرَّفِيعَةِ ، وَالْأَمَانِي تَتَلَاشَى عِنْدَ هَذِهِ
الْأُمْنِيَّةِ –نَعَمْ عِبَادَ اللهِ– أُمْنِيَّةٌ وَهِمَّةٌ فَوْقَ السَّحَابِ ،
نَعَمْ هِمَّةٌ تُنَاطِحُ الْجِبَالَ، وَأُمْنِيَّةٌ تُرِيدُ أَنْ تَصِلَ إِلَى الْمَنَالِ ، لَمْ يُرِدْ رَبِيعَةُ
بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ رضي الله عنه الْجَنَّةَ فَحَسْبُ . . بَلْ أَرَادَ أَعْلَى
مَنْزِلَةٍ فِيهَا . لَقَدْ أَرَادَ رضي الله عنه مُرَافَقَةَ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم. فَهَكَذَا تَكُونُ الْهِمَمُ
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ . اِسْأَلْ مَنْ هُمْ فِيْ عُمُرِهِ مِنْ شَبَاْبِ اَلْيَوْم،
لَاْ تَتَجَاْوَزُ هِمَّةُ أَكْثِرِهِمْ ، فَوْزَ فَرِيْقِهِ، أَوْ قَصَّةَ
شَعْرِهِ، أَوْ تَلْمِيْعَ إِطَاْرَاْتِ سَيَّاْرَتِهِ ، أَوْ مُوْدِيْلَ
جَوَّاْلِهِ !!!!
أسْأَلُ اَللهَ تعالى أَنْ يَهْدِيَ ضَاْلَ اَلْمُسْلِمِيْنَ ،
إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ
مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ
وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي
إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ :
بَقِي رَبِيعَةُ
رضي الله عنه مُلَازِمًا
لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُرِيدُ أَنْ يَشْغَلَهُ أَحَدٌ عَنْ هَذَا
الشَّرَفِ الْعَظِيمِ ، حَتَّى إِنَّهُ رضي الله عنه لَمْ يُفَكِّرْ أَنْ يَتَزَوَّجَ
لِنَفْسِ هَذَا السَّبَبِ ، لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّحْمَةَ
الْمُهْدَاةَ فَطِنَ لِهَذَا الْأَمْرِ وَاهْتَمَّ لَهُ ، يَقُولُ رَبِيعَةُ رضي الله
عنه: لَمْ يَمْضِ عَلَى ذَلِكَ
وَقْتٌ طَوِيلٌ حَتَّى نَادَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: (( يَا رَبِيعَةُ ، أَلَا تَتَزَوَّجُ؟
)) قُلْتُ : لَا أُحِبُّ أَنْ يَشْغَلَنِي شَيْءٌ عَنْ خِدْمَتِكَ يَا
رَسُولَ اللهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لِي مَا أُمْهِرُ
بِهِ الزَّوْجَةَ. فَسَكَتَ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَآنِي ثَانِيَةً ، فَقَالَ : (( يَا رَبِيعَةُ ، أَلَا تَتَزَوَّجُ؟ )) فَأَجَبْتُهُ بِمِثْلِ مَا قُلْتُ
لَهُ فِي الْمَرَّةِ السَّابِقَةِ.
يَقُولُ رَبِيعَةُ: لَكِنِّي مَا إِنْ خَلَوْتُ إِلَى نَفْسِي حَتَّى نَدِمْتُ عَلَى
مَا كَانَ مِنِّي، وَقُلْتُ: وَيْحَكَ يَا
رَبِيعَةُ ، فَوَ اللهِ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَأَعْلَمُ مِنْكَ بِمَا
هُوَ أَصْلَحُ لَكَ فِي دِينِكَ وَدُنْيَاكَ،
وَأَعْرَفُ مِنْكَ بِمَا عِنْدَكَ، وَاللهِ لَإِنْ دَعَانِي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ
هَذِهِ الْمَرَّةِ لِلزَّوَاجِ لَأَجَبْتُهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْضِ عَلَى ذَلِكَ طَوِيلُ
وَقْتٍ حَتَّى قَالَ صلى الله عليه وسلم: (( يَا رَبِيعَةُ ، أَلَا تَتَزَوَّجُ؟ )) قُلْتُ: بَلَى
يَا رَسُولَ اللهِ، أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ، وَلَكِنْ مَنْ يُزَوِّجُنِي وَأَنَا
كَمَا تَعْلَمُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (( انْطَلِقْ إِلَى آلِ فُلَانٍ ، وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ
اللهِ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي فَتَاتَكُمْ فُلَانَةً )) فَأَتَيْتُهُمْ
عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ، لَا أَمْلِكُ مِنَ الصَّدَاقِ شَيْئًا؟ وَقُلْتُ لَهُمْ : إِنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ لِتُزَوِّجُونِي فَتَاتَكُمْ
فُلَانَةً . قَالُوا: فُلَانَةٌ! وَيَبْدُو أَنَّهَا عَلَى مُسْتَوًى
رَفِيعٍ جِدًّا، قُلْتُ: نَعَمْ ، عَلَى اسْتِحْيَاءٍ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللهِ ، وَمَرْحَبًا بِرَسُولِ
رَسُولِ اللهِ، وَاللهِ لَا يَرْجِعُ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ إِلَّا بِحَاجَتِهِ، وَعَقَدُوا
لِي عَلَيْهَا ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ ، لَقَدْ جِئْتُ مِنْ
عِنْدِ خَيْرِ بَيْتٍ، وَزَوَّجُونِي، وَعَقَدُوا لِي عَلَى ابْنَتِهِمْ،
فَمِنْ أَيْنَ آتِيهِمْ
بِالْمَهْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَاسْتَدْعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بُرَيْدَةَ
بْنَ الْحُصَيْبِ رضي الله عنه وَكَانَ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ بَنِي أَسْلَمَ، وَقَالَ لَهُ
: (( يَا بُرَيْدَةُ ، اجْمَعْ لِرَبِيعَةَ وَزْنَ نَوَاةٍ ذَهَبًا ))، فَجَمَعُوهَا
لِي، فَقَالَ لِي صلى الله عليه وسلم: (( اذْهَبْ بِهَذَا
إِلَيْهِمْ ، وَقُلْ لَهُمْ : هَذَا صَدَاقُ ابْنَتِكُمْ )) فَأَتَيْتُهُمْ
وَدَفَعْتُهُ لَهُمْ ، فَقَبِلُوهُ ، وَرَضُوا بِهِ
، وَقَالُوا : كَثِيرٌ طَيِّبٌ .
فَأَتَيْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا قَطُّ أَكْرَمَ مِنْهُمْ
، فَلَقَدْ رَضُوا مَا أَعْطَيْتُهُمْ عَلَى قِلَّتِهِ ، وَقَالُوا
: كَثِيرٌ طَيِّبٌ، فَمِنْ أَيْنَ مَا أُولِمُ بِهِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِبُرَيْدَةَ:
(( اجْمَعُوا لِرَبِيعَةَ ثَمَنَ كَبْشٍ )) فَابْتَاعُوا
لِي كَبْشًا عَظِيمًا سَمِينًا ، فَقَالَ لِي
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( اذْهَبْ
إِلَى عَائِشَةَ ، وَقُلْ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ لَكَ مَا عِنْدَهَا
مِنَ الشَّعِيرِ )) فَأَتَيْتُهَا فَقَالَتْ : إِلَيْكَ الْمِكْتَلَ ، فَفِيهِ
سَبْعَةُ آصُعٍ ، وَاللهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ غَيْرُهُ . فَمِنْ عِنْدِ رَسُولِ
اللهِ الشَّعِيرُ، وَمِنْ بُرَيْدَةَ الْكَبْشُ
وَالْمَهْرُ ، فَانْطَلَقْتُ بِالْكَبْشِ وَالشَّعِيرِ إِلَى أَهْلِ زَوْجَتِي ، فَقَالُوا
: أَمَّا الشَّعِيرُ
فَنَحْنُ نُعِدُّهُ ، وَأَمَّا الْكَبْشُ فَأْمُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يُعِدُّوهُ لَكَ
، فَأَخَذْتُ الْكَبْشَ أَنَا
وَأُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ وَذَبَحْنَاهُ ، وَسَلَخْنَاهُ ، وَطَبَخْنَاهُ ، فَأَصْبَحَ
عِنْدَنَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ ،
فَأَوْلَمْتُ ، وَدَعَوْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجَابَ دَعْوَتِي
، ثُمَّ صلى الله عليه وسلم مَنَحَنِي أَرْضًا إِلَى جَانِبِ أَرْضِ أَبِي بَكْرٍ
، فَدَخَلَتْ عَلَيَّ الدُّنْيَا؛ أَرْضٌ وَزَوْجَةٌ
وَوَلِيمَةٌ وَمَهْرٌ .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ :
هَكَذَا تَكُونُ
الْهِمَمُ ، وَهَكَذَا تَكُونُ الْعَوَاقِبُ ، وَهَكَذَا تَكُونُ النَّتَائِجُ ، وَمَنْ
كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ ، جَمَعَ اللهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَجَعَلَ غِنَاهُ
فِي قَلْبِهِ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ .
أَلَا وَصَلُّوا
عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ فَقَدْ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ عَلِيمًا : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا { وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ
مُسْلِمٌ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا
)) ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى
آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي
التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَعَنَّا مَعَهُمْ
بِعَفْوِكَ وَجُودِكَ وَكَرَمِكَ وَرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ . اللَّهُمَّ
انْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّينِ
، وَاجْعَلْ بَلَدَنَا هَذَا آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ
، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا ، وَاسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا خِيَارَنَا ، وَاجْعَلْ
وِلَايَتَنَا فِي عَهْدِ مَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتَّبَعَ رِضَاكَ يَا رَبَّ
الْعَالَمِينَ . اللَّهُمَّ أَيِّدْ إِمَامَنَا -خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ- بِتَأْيِيدِكَ
، وَارْزُقْهُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُ عَلَى الْخَيْرِ وَتُعِينُهُ
عَلَيْهِ ، وَاصْرِفْ عَنْهُ بِطَانَةَ السُّوءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، اللَّهُمَّ
وَفِّقْهُ لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَهُ بِرِضَاكَ وَانْصُرْ بِهِ دِينَكَ وَكِتَابَكَ
وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عِبَادَ اللهِ : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ
ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فَاذْكُرُوا
اللهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ
، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |