البكاء من خشية الله تعالى
إِنَّ
الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا
وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ
أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ((
يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن خير الكلام
كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل
محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
أيها المؤمنون: البكاءَ مِن خشية الله، وإراقة الدُّمع خوفًا منَ الله، مقامٌ عظيم من
مقامات العبودية، لأنَّه مقام خُشُوع وخضوع وانكسار بين يدي العظيم سبحانه، وهو
مقامُ الأنبياء والعارفين بالله، فقد امتدحهم الله بهذه الصفة فقال واصفاً
الأنبياء: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا
وَبُكِيًّا﴾، وقال واصفاً أولي العلم: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾، ولا أجل من صفة امتدحها الله.
ــ والله تبارك
وتعالى يحب البكاء مِن خشيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أحب إلى
الله من قطرتين وأثرين، قطرةٍ من دموعٍ في خشية الله، وقطرةِ دم تُهراقُ في سبيل
الله... »، الحديث؛ رواه التِّرمذي، وصَحَّحه الألباني.
ــ والبكاء من
خشية الله جُنَّةٌ من النار، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَلِج النارَ رَجُلٌ
بَكَى مِن خشية الله، حتى يعود اللَّبن في الضرع»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «عينانِ
لا تَمَسُّهُما النارُ: عينٌ بكتْ مِن خشية الله، وعينٌ باتَتْ تحرُس في سبيل الله»؛
رواهما التِّرمذي، وصَححهما الألباني.
ــ والرَّجل الذي
تفيض عيناه في الخلوة من خشية الله، يقيه اللهُ حر الشمس ويُظِله في ظله يوم لا ظل
إلا ظله، كما في حديث السبعة المتفق عليه.
أيُّها المسلمون:
إلى الله المشتكى
من حالنا، جفت عيوننا من دموع الخشية، وأصبحنا نصلي فلا نخشع، ونتلوا القرآن فلا
نتأثر ولا نبكي، ونسمع المواعظ فلا نرق ولا نبكي، ونزور المقابر فلا نبكي، وندفن
الموتى فلا نبكي.
ولو سألَ الواحدُ
منَّا نفسَه: متى آخرُ مرةٍ دَمَعَتْ عيناه منَ خشية الله؟ لكان الجواب كاشفا عن
إصابتنا بداء القسوة والغفلة.
وما ذاك عباد
الله إلا بسبب:
ــ رُّكوننا إلى
الدُّنيا، وغُرُورنا بزينتها وملذاتها، وكثْرة اشتغالنا بِفُضُولها.
ــ وبسبب غفلتنا
عن ذكر الله وعن الدار الآخرة، فَقَلَّ ذِكْرُنا لمصيرنا وآخرتنا.
ــ وبسبب كَثْرة
معاصينا وتَرَاكُم الذنوب على قلوبنا، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العبد إذا
أذنبَ ذنبًا نُكِتَتْ في قلبه نُكتةٌ سوداء، فإنْ تابِ ونزعَ واستغفرَ صقل قلبه،
وإن عاد زادتْ حتى تعلوَ قلبَه، فذلك الرَّان الذي ذَكَرَ الله في القرآن:﴿ كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾»؛ رواه أحمد، والترمذي،
وابن ماجَهْ، وحَسَّنَهُ الألباني.
ــ فيا عباد
الله: لماذا تستمر قسوتنا؟ ألا يعظنا قول ربنا:﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ ألا يعظنا قولُه تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ... ﴾
ــ ما ابتلى الله
عبدًا بعقوبة أعظم من قسوة القلب وقحوط العين.
قال ابن القيم
رحمه الله: (ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى، فاعلم أن قَحْطَهَا
إنما هو من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي) آهـ
وكان النبي صلى
الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع كما في صحيح مسلم
وكان صلى الله
عليه وسلم يستعيذ بالله من القسوة والغفلة، وكان إذا صَلَّى يسمع لصدره أزيز كأزيز
المِرْجَل منَ البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتدَّ غليانه؛ رواه أبو داود، وأحمد،
والنسائي، وكان يقول: «أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية».
وأبو بكر كان
أسيفاً بكاءاً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن.
وعمر كان يسمع
نشيجه من آخر الصفوف وهو يصلي بالناس.
وعثمان كان إذا
وقف على حافة القبر بكى حتى تبل دموعه لحيته، ويقول سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «القبر أول منازل الآخرة».
ويقول
الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ رضي الله عنه: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا
الْقُلُوبُ» متفق عليه
وعَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ فَخَطَبَ فَقَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ
الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ
تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالَ
أنس: فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ: "غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ"
متفق عليه
وعَنْ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، أَمْسِكْ
عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» الترمذي
وحسنه وصححه يحيى بن معين والألباني.
وفي حديث ثوبان:
«طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى
خَطِيئَتِهِ»
وكان كثير من
السلف يحب أن يكون من البكائين، ويفضلونه على بعض الطاعات، كما قال عبد الله بن
عمر رضي الله عنهما: "لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف
دينار"
وللسلف الصالح
أحوال وأحوال مع الخشوع والبكاء، اقرؤوها في كتب الزهد والرقائق، فقد كانوا يخشعون
ويبكون في الصلوات، ويبكون عند تلاوة الآيات، ويرِقُّون عند المواعظ، ويبكون خوفا
من السابقة، وخوفا من سوء الخاتمة، ويبكون عند تذكر الآخرة، ويبكون شوقاً للقاء
الله ولنعيم جناته، وخوفاً من النار والوقوف بين يديه.
فيا عباد الله: البكاء من خشية الله، عبودية محبوبة لله، قام مقامها السلف الصالحون،
السابقون الأولون .
فاللَهُمَّ ارْزُقْنَا مَا رَزَقتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِين
مِنْ لِينِ القُلُوبِ وَالْخُشُوعِ وَالْبُكَاءِ وَالْخَشْيَةِ.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة
الثانية
الْحمدُ
للهِ ربِّ العالَمِينَ الرّحمنِ الرّحيمِ مَالكِّ يَومَ الدِّينِ، وأشهدُ أنَّ لا
إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الحق المبين، وأشهدُ أنَّ محمدًا خاتم النبيّين
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . أما
بعد :
عباد الله : للبكاء من خشية الله أثر كبير في غسل صدأ الذنوب عن القلوب، ويورث رقة
وشعوراً بالقرب من الرب وذوقاً لحلاوة مناجاته وانشراحاً لا يوصف.
فيا عباد الله: استجلبوا الرقة والبكاء لأنفسكم، واعلموا أن من وسائل ذلك:
ــ أولاً: زيادة
العلم بالله وبكماله وجلاله وعظمته ومدلولات أسمائه وصفاته، فمن كان بالله أعرف
كان منه أخشى وأخوف، ومن وسائل ذلك تدبر آيات العظمة في القرآن والتفكر في آلاء
الله في الكون.
ــ ثانياً:
المجاهدة على حضور القلب في الصلاة والتفهم لأذكارها واستشعار ركوعها وسجودها
ومناجاة الرب فيها.
ــ ثالثاً: تذكر
الذنوب السالفة، والتضرع إلى الله والبكاء بين يديه بطلب التوبة والعفو المغفرة
والإقالة من العثرة، والاعتذار إليه سبحانه.
فابكِ يا عبد
الله على صلاة أضعتها، ابكِ على معصية اقترفتها، ابكِ على حرمة انتهكتها، ابكِ على
أم عققتها ورحم قطعتها، ابكِ على الكذب والغيبة والسخرية التي نطقتها، ابكِ على
خطايا السمع والبصر التي لا تحصيها، ابكوا على خطاياكم بين يدي مولاكم (فطوبى لمن
بكى على خطيئته)، فربكم يحب أنين المذنبين التائبين، ويقبل اعتذار المعتذرين،
ويغفر للمستغفرين.
ــ رابعاً من
أسباب الرقة والبكاء: تذكُّر الموت وهول المطلع، وتذكر القبر وفتنته، والآخرة
وأهوالها، والجنة ونعيمها، والنار وجَحِيمها.
ــ خامساً: ذكر
الله، وتلاوة كلام الله بتدَبُّر؛ قال الله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ فما رقت القلوب ولا رقرقت الدموع،
بمثل ذكر الله وتدبر كلامه فهو أعظم المواعظ وأقوم الهدى وأنفع الشفاء.
أخذ تميم الداري
رضي الله عنه يقرأ آية واحدة من كتاب الله، يركع ويسجد ويبكي حتى أصبح، ما جاوز
هذه الآية إلى غيرها: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن
نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم
وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾
ــ سادساً: قراءة
أخبار الصالحين البكائين، فإنها ترقق القلوب، والرحمة تتنزل عند ذكر الصالحين كما
جاء في الأثر.
اللهم
ارزقنا الرقة والخشوع والبكاء من خشيتك. اللهم إنا نعوذ بك من القسوة والغفلة
ونعوذ بك من قلب لا يخشع، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة
نقمتك وجميع سخطك، اللهم تغمدنا ووالدينا برحمتك إنك أنت أرحم الراحمين. اللهم إنا
نسألك رحمة تصلح بها قلوبنا وتفرج بها كروبنا وتيسر بها أمورنا وتشفي بها مرضانا ،
وترحم بها موتانا يا أرحم الراحمين . اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا
شأننا كله ولا تكلنا أنفسنا طرفة عين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا
وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل
الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر. اللهم اغفر للمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات .
اللهم اغفر للمسلمين الميتين وجازهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفراناً .
اللهم
آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ
بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم خيراً على ما يقدمونه لخدمة
الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم
ادفع عن بلادنا مضلات الفتن، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين
ومن كل شر وفتنة يا خير الحافظين، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة
فاجعل كيده في نحره ، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم لا ترفع لهم راية واجعلهم
لمن خلفهم عبرة وآية . اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن
المستضعفين من المؤمنين ، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين من المؤمنين في كل مكان
، اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم ، اللهم
أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم
جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً يا
ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين يا حيّ يا قيوم . ربنا اغفر لنا ولإخواننا
الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
سبحان
ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي
تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|