رَحْمَةُ الْأَوْلَاد
خطبة جمعة بتاريخ / 1-3-1440 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ،
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى
الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى ربكم ، وراقبوه في جميع أعمالكم
، وكل حركاتكم وسكناتكم ؛ مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه .
أيها المؤمنون: الإسلام دين
الرحمة ، ونبينا عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة ، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] ، وفي صحيح
مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفِّى
وَالْحَاشِرُ وَنَبِىُّ التَّوْبَةِ وَنَبِىُّ الرَّحْمَةِ)) ، وفي الترمذي أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ،
ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ)) ، وفي الصحيحين أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ
الرُّحَمَاءَ)) ، وفي الصحيحين أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لَا
يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)) . ورحمة الإسلام -أيها المؤمنون- رحمة عامة شاملة تتناول
حتى الحيوان البهيم ؛ ففي الأدب المفرد بسند صحيح أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه
وسلم «يا رسول الله الشاة أذبحها وأرحمها» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ
اللهُ)) .
أيها المؤمنون: حديثنا عن
نوعٍ مهمٍ عظيمٍ في باب الرحمة ألا وهو -أيها العباد- رحمة الوالد لولده ؛ فإنها
يا معاشر المؤمنين أساس الأبوَّة وأصلها ومرتكز التربية وقاعدتها ، فإذا وُجدت
الرحمة في قلوب الآباء والأمهات حلَّت الخيرات وتوالت البركات وتحققت المصالح
الكبيرات والمنافع العظيمات؛ برًّا ووفاءً وإحسانًا واستقامةً على طاعة الله بإذن
رب الأرض والسماوات . بينما -عباد الله- إن نُزعت الرحمة من قلب الوالد حلَّ
الشقاء وتوالى العناء وتفرق الأبناء وكثرت الشدة والبلواء ، وفي الحديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : ((لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ))؛ وهذا
فيه إلماحةٌ إلى أن انتزاع الرحمة موجبٌ للشقاء وسبب لحلوله . ولهذا -عباد الله-
فإن أعظم ما يكون في باب التأديب والتربية للأبناء أن يقوم ذلك على رحمتهم والرأفة
بهم والتودد والتلطف والإحسان ؛ فإن هذه ركيزة عظيمة وأصلٌ متين لابد منه في هذا
الباب .
أيها المؤمنون : جاء في
الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن ناسًا من الأعراب أتوا النبي صلى
الله عليه وسلم فقال واحد منهم: «يا رسول الله أتقبِّلون الصبيان! فوالله ما نقبِّلهم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَوَأَمْلِكُ إنْ كَانَ اللهُ
نَزَعَ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ)) ، وجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل الحسن فقال : «إِنَّ
لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا»، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: ((مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ)) ، وجاء في السنن أن النبي عليه
الصلاة والسلام قال: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ
كَبِيرَنَا)) .
أيها المؤمنون : تأملوا في
هذا المقام إدراكًا لعظيم شأن الرحمة في مقام التربية والتأديب قول الله عز وجل ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:159] ، مع قول
النبي عليه الصلاة والسلام ((إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ))
؛ أي أن الأصل في الوالد مع ولده أن يكون رحيمًا بهم . ولهذا فإن جماعة من
المفسرين أوردوا هذا الحديث تحت هذه الآية في سياق بيان معناها وإيضاح مدلولها ؛ تنبيهًا
بذلك إلى عظم شأن الرحمة في مقام التأديب والتربية ، وأن انتزاع الرحمة من القلوب
وأن يحل محلها العنف والشدة موجب للتفكك والشقاء كما مر البيان ، وهذا فيه بيان أن
من يوفقه الله عز وجل لرحمة أبنائه أن ذلك موجبًا لرحمة الله سبحانه وتعالى له؛
فإن من يرحم يرحمه الله ، ومن لا يَرحم لا يُرحم .
أيها المؤمنون : جاء في
الحديث أن عائشة رضي الله عنها أتاها امرأة ومعها طفلان لها؛ فأعطتها عائشة رضي
الله عنها ثلاث تمرات ، فأعطت كل صبيٍ تمرة ؛ فأكل الصبيان التمرتين ثم نظرا إلى
أمهما ، فعمدت إلى تمرتها وشقتها نصفين وأعطت كل صبي نصف تمرة ، فلما جاء النبي
عليه الصلاة والسلام أخبرته عائشة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا يُعْجِبُكِ
مِنْ ذَلِكَ!! لَقَدْ رَحِمَهَا اللهُ بِرَحْمَتِهَا صَبِيَّيْهَا)) .
نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا أجمعين من الرحماء
. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر
لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ
محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد أيها
المؤمنون : اتقوا الله تعالى فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه
ودنياه.
أيها المؤمنون : صح في
الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لَمْ يَدْخُلِ الرِّفْقُ فِي
شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ ، وَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ)) ؛ والرفق -عباد
الله- موجبه أن يكون المرء رحيما ، فإذا وُجدت الرحمة ُوجد الرفق ووجدت أنواع
الخيرات وصنوف الأخلاق الفاضلات .
أيها المؤمنون عباد الله :
إن هذه الأخلاق الرحمة وغيرها تحتاج من العبد إلى أمرين لابد منهما :
§ كثرة الدعاء ولاسيما
بالمأثور «اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا انت ، واصرف عنا سيئها لا
يصرف عنا سيئها إلا أنت» .
§
وبالمجاهدة للنفس فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69] .
وصلُّوا
-رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى
الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ
بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبى
بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن
تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين
.
اللهم أعنَّا ولا تُعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا
تمكر علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم اجعلنا
لك ذاكرين لك شاكرين ، إليك أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين، اللهم تقبل توبتنا
، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدِّد ألسنتنا ، واسلل سخيمة
صدورنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم
اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها
إلا أنت ، اللهم كما حسَّنت خلْقنا فحسِّن أخلاقنا، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات
الأخلاق والأهواء والأدواء ، اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة
عين .
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا
فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك ، وأعِنه
على طاعتك ، وسدِّده في أقواله وأعماله ، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه
من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجله ، أوله وأخره ، علانيته وسره ، اللهم
اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا ، وما أسررنا وما أعلنا ،وما أنت أعلم به منا ، أنت
المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت .ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا؛ فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم إنا
نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم
يا ذا الجلال والإكرام يا من وسعت كل شيء رحمة وعلما ؛ أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا
من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين ، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم
اسقنا وأغثنا ، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نسألك غيثا مغيثا ، هنيئًا مريئا ، سحًّا
طبقا ، نافعًا غير ضار ، عاجلا غير آجل، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر
، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم
أغثنا ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا . ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
سبحان ربك العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد
لله رب العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ
عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125
|