سُنَة
اللهِ في عِبادِه
إِنَّ الْحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا
أَنَّ سُنَنَ اللهِ في عِبادِه لا تَتَغَيَّرُ ولا تَتَبَدَّلَ، سواءً كان ذلك في
الأفرادِ أوِ الحُكُوماتِ أو الأُمَمِ أو المُسلِمين أو الكفار. والمُسْلِمُون
بِحاجةٍ ماسَّة إلى تَذَكُّرِ ذلكَ وتَصَوُّرِه، لأنَّهُم لَنْ يَتَصَوَّرُوا
واقِعَهُم ولَن يَتَعامَلُوا معَه ومَعَ التاريخِ والأحداثِ على الوَجْهِ الصحيح
إلا بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ في عِبادِه وخَلْقِه، لأن فيها ما يُعِينُ
المسلمينَ حُكَّاماً ومَحْكُومين على الخُرُوجِ مِن الأزَماتِ والمَتاهاتِ
والضَّعْفِ والتَشَتُّت، خُصُوصاً في أَزْمِنَةِ الفِتَن. والْمُؤْمِنُ إذا
أَيْقَنَ بالسُّنَنِ الإلهيَّة وفَقِهَها، فإنه لا يَتَفاجَأُ عِنْدَما يَرى
المُتَغَيِّراتِ، حَتَّى لَو تَتَابَعَت وَكَثُرَت، بِخِلافِ مَن كانَ غافِلاً
عَنْها أو جاهِلاً بِها، أو مُنْكِراً لها، فإنه في حَيْرَةٍ واضْطِرابِ وضَياع.
فَمِن السُنَنِ الإلَهِيَّةِ التي
يَسْتَحِيلُ أَنْ تَتَبَدَّلَ: أَنَّ المُسْتَقْبَلَ للإسلام: فالْمُؤْمِنُ مُوقِنٌ
بِذلك، ولَيْسَ عِنْدَه أَدْنَى شَكٍّ في ذلك، مَهْمَا رَأَى مِن ظُهُورٍ
لِلكُفارِ في بَعْضِ الأزمانِ، ومَهْمَا رَأَى مِنْ ضَعْفٍ في المُسْلِمين. لأن
اللهَ تَعالَى وَعَدَ بِذلِك، بَلْ أَرْسَلَ رَسُولَه مِن أجْلِ ظُهُورِ دِينِه
على الدِّينِ كُلِّه، قال تعالَى وهُو أصْدَقُ القائِلين: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )، فَكُلُّ مَنْ أَشْغَلَ نَفْسَه في حَرْبِه لِهَذا
الدِّين، أو عارَضَ الأَدِلَّةَ
أَو سَعَى لِإِبطالِ العَمَلِ، أو قالَ بِأنَّه ذَهَبَ وَقْتُها، فَلْيَعْلَمْ
أَنَّه يُتْعِبُ نَفْسَهُ ويُهْلِكُها. ولَيْسَ الأَمْرُ مُخْتَصًّا بِأَعْداءِ
الإسلام، بَلْ حَتَّى لَوْ تَخَلَّى المُسْلِمُون عَن نُصْرَةِ هذا الدِّين، أو
يَئِسُوا مِن ظُهُورِه، لَذَهَبَ اللهُ بِهِم، وأَتَى بِقَوْمٍ خَيْرٍ مِنْهُم
يَنْصُرُ بِهِم دِينَه، ويُعْلِي بِهِم كَلِمَتَه، فاطْمَئِنُّوا أيُّها
الغَيُورُون ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا، قال تعالى: ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ). وقال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ
يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ).
وَمِن السُنَنِ الإِلَهِيَّةِ: سُنَّةُ اللهِ
في المُنافقين، أَنَّهُم إذا تَمادَوا ومَرَدُوا على نِفاقِهِم وأَمِنُوا
عُقُوبَةَ اللهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا عَن إرْجافِهِم وتَشْكِيكِهِم وصَدِّ
المُؤمنين عَن عقِيدَتِهِم، ونَشْرِهِم الباطِلَ والفواحِشَ، أنَّ اللهَ يُنْزِلُ
عَلَيهِم اللّعْنَةَ والعُقُوبَةَ أَيْنَما حَلُّوا ويُسَلِّطُ علَيهِم عِبادَه
المُؤْمِنينَ فَيَقْهُروهُم، ما دامَ الْمُسْلِمون
والْمُصْلِحون مُشْتَغِلِين بالرَّدِّ عليهِم وعَلى شُبَهِهِم، قال تعالى: ( لَئِنْ
لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِين أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا
وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ).
ومن السُّنَنِ الإِلَهِيَّةِ التي لا
تَتَبَدَّل: أَنَّ التَمْكينَ لِلمُسْلِمين وحُصُولَ الأمْنِ لا يَكونُ إلا
بإفرادِ اللهِ بالعِبادَةِ وتَرْكِ الشِّرْك، وَمَهْما بَذَلَ المُسْلِمونَ مِنْ
أَجْلِ تَحْقِيقِ الأَمْنِ والتَمْكينِ بِغَيْرِ ما أَخْبَرَ اللهُ فَلَنْ
يَتَحَقَّقَ لَهُم ما يُريدُون، قال تَعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي
لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ).
وَمِن السُنَنِ الإلهِيَّةِ: أنَّ النِّعَمَ
تَدُومُ وتَزْدَادُ بالتَقْوَى والشُّكْر، وتُسْلَبُ إذا غَيَّرَ المُسْلِمُون ما
بِأنْفُسِهِم. سُنَّةٌ ثابِتَةٌ يَسْتَحِيلُ أن تَتَخَلَفَ مَهْمَا حاوَلَ الناسُ
نَفْيَها. وكَثيرٌ مِن أَهْلِ الهَوى والغَفْلَةِ يَتَضايَقون مِن الكَلامِ عَن
هذه السُّنَّةِ الإلهِيَّة حِينَما تَسُوءُ أُمُورُ دُنياهُم وتَتَأَثَّرُ
مَصالِحُهُم الدُّنيَوِيَّة، ويَظُنُّونَ أنَّ مَن يَتَكَلَّمُ عَنها، إنَّما
يَتَزَلَفُ لِلْمَسْئُولِين أَو يُدافِعُ عَن قَراراتِهم، فَيَأْنَفُونَ مِن
الاعْتِرافِ بِأَخْطائِهِم ومُحاسَبَةِ أَنْفُسِهِم. قال تعالى: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ
الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ
الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ
للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين,
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً
عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً
كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ اللهِ: إنَّ الكلامَ عَنْ سُنَنِ اللهِ
في عبادِ وخَلْقِه، لا تَكْفِيهِ خُطْبَةٌ أَو مُحاضَرةٌ أو مَوْعِظَةٌ، ولَكِنَّنا نَذْكُرُ بَعْضًا مِنها مِن بابِ التَذْكِيرِ، فإنّ الذِكْرى تَنْفَعُ
المُؤمِنين، ولِما في ذلكَ مِن الحَثِّ على الرُّجُوعِ إلى القْرآنِ والسُّنَّةِ، والنَّظَرِ في سُنَنِ اللهِ في خَلْقِهِ وعِبادِه. فإنَّ الزَمانَ يَتَغَيَّر، والناسُ يَتَغَيَّرون، ولَكِنَّ سُنَنَ اللهِ لا تَتَغيَّرُ أبداً، فَهِي
ماضِيَةٌ في كُلِّ زمانِ وعَلَى جَمِيعِ خَلْقِه بِلا استثناء. ( فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ).
وَكَثيرٌ مِن الْمُغَفَّلين أو القانِطِين أو
الْمُرْتابِين، عِنْدَما يَرَونَ تَسَلُّطَ أُمَمِ الكُفْرِ، أوْ يَسْمَعُون
الكلامَ عن النَّصْرِ والتَمْكينِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، أَو الكلامَ عن أَسبابِ
زَوالِ النِّعَم، أَو الكلامَ عنِ العُقُوباتِ الإلَهِيَّةِ فِيمَن أَعْرَضَ عن
الكتابِ والسُّنَّةِ، يَظُنُّونَ أنَّ ذلك إنَّما هو مِن بابِ التَهْويلِ والْمُبالَغَةِ، أو مِن بابِ التَسْلِيَةِ والتَنْفيسِ. ولَيْسَ الأمْرُ كذلك. ولِكِنه البُعْدُ عن
القُرْآنِ والسُّنَّةِ، وضَعْفُ الإيمانِ واليَّقينِ بِصِدِقِ وَعْدِ الله، وما
جَرَتْ بِه سُنَّةُ اللهِ.
فَوَاللهِ إنَّ جَمِيعَ ما أَخْبَرَ اللهُ
بِه، ورَبَطَهُ بِسُنَّتِه يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَخَلَّفَ أبدا.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا
الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تلبسه علينا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم علمنا
ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك، اللهم حَبِّب إلينا الإيمانَ
وزَيّنْه في قُلُوبِنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين،
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك
لنا في الحلال من رزقك، وآتنا في الدنيا حسنة واجعلنا في الآخرة من الصالحين،
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين
حكاما ومحكومين يا رب العالمين، اللهم أنزل المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا
أرحم الراحمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، واجعلهم يداً واحدةً
على من سواهم، ولا تجعل لعدوهم منةً عليهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ألّف بين
قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور
وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين،
اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم
احقن دماء المسلمين، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتبع رضاك يا
أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لها، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لها،
اللهم أصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، (
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها
هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |