لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أيها المسلمون: اتقوا اللهَ تعالى،
واعْلَمُوا أَنَّ الإِيمانَ لَيْسَ بِالتَحَلِّي ولا بِالتَمَنِّي، ولكن ما وَقَرَ
في القَلْبِ وصَدَّقَتْهُ الأَعْمالُ، وقَدْ أَجْمَعَ العُلَماءُ عَلَى أَنَّ
الإيمانَ: اعْتِقادٌ في القَلْبِ، وقَولٌ باللسانِ، وعَمَلٌ بالجَوارِح، يَزيدُ
بالطاعةِ ويَنْقُصُ بِالمَعْصيَة. ولِذلِكَ فإِنَّ الإيمانَ يَتَفاوَتُ في
القُلُوب، والْمُؤْمِنُونَ لَيْسُوا عَلَى دَرَجَةٍ واحدةٍ في إِيمانِهِم.
فَبَعْضُهُم كامِلُ الإيمان، وبَعْضُهُم ناقِصُ الإيمان. ولِكَمالِ
الإيمانِ علاماتٌ كثيرةٌ، ومِنْ تِلْكُمُ العَلاماتِ:
أَنْ يُحِبَّ المُؤْمِنُ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الخَيْرِ ما يُحِبُّهُ
لِنَفْسِه، ويَكْرَهُ له ما يَكْره لِنَفْسِه. قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ
وسلَّم: ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ
لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه ). أَيْ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَكُونُ
كامِلَ الإيمانِ حَتَّى يَكُونَ كذلك. لِأَنَّ النَّفْيَ الوارِدَ في الحديثِ
إِنَّما هُوَ نَفْيٌ لِكَمالِ الإيمانِ، ولَيْسَ نَفْياً لِأَصْلِ الإيمان. عِبادَ الله: إِنَّ
لِهذا الحَديثِ آثاراً عَظِيمَةً لا بُدَّ وَأَنْ تَظْهَرَ عَلَى سُلُوكِ مَنْ
تَحَلَّى بِهذِهِ الخَصْلَةِ العَظيمَةِ العَزيزة: فَمِن ذلك:
حُسْنُ الجِوار، فَإِنَّ الشارِعَ الْحَكيمَ خَصَّ الْجارَ بِمَزيدٍ مِن
العِنايَةِ والاهتِمام، حَتَّى قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( ما زالَ جِبْريلُ يُوصِينِي بالجارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّه
سَيُوَرِّثُه ). وجَعَلَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الذنْبَ
مَعَ الْجارِ أَشَدَّ مِنَ الذَّنْبِ مَعَ غَيْرِهِ فقال: ( لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ
مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بحَلِيلَةِ جَارِهِ ). ومن ذلك:
الْمُوَظَّفُ مَعَ الْمُراجِعِينَ، لا بُدَّ وَأَنْ يُحِبَّ لَهُم ما يُحِبُّ
لِنَفْسِه، فَيَضَعُ نَفْسَهُ في مكانِهِم، كَيْ يَشْعُرَ بِحاجَتِهِم، ويجْتَهِدَ
في إنْجازِ مُعامَلاتِهِم، ويَتَجَنَّبَ تَعْطِيلَها أَوْ تأْخِيرَها. ومن ذلك:
ما يَتَعَلَّقُ بالبيعِ والشراءِ، فإنَّ بَعْضَ الناسِ لا يُراعِي حُقُوقَ
الأُخُوَّةِ في ذلك، فَيَكْثُرُ في أَسْواقِهِم الغِشُّ والخِداعُ والأَنانيَّةُ
والكَذِبُ والتَدْليسُ، وغَيْرُ ذلكَ مِمَّا يُنافِي مُقْتَضى هذا الحديث. ومِنْ آثارِ هذا الحديث: الْحِرْصُ على
تَجَنُّبِ الغِيبَة، لأَنَّ الغِيبَةَ: ( ذِكْرُكَ
أَخاكَ بِمَا يَكْرَه )، وهذا الوَصْفُ يَتَنافَى مَعَ مُقْتَضَى هذا
الحَديثِ العَظيم. فَمَن أَشْغَلَ لِسانَه بالغِيبَةِ فلْيَعْلَمْ أَنَّ الإيمانَ
لم يَكْتَمِلْ في قلبِه. ومِنْ آثارِ هذا
الحديث: عَدَمُ النَّمِيمَةِ والتَّفْريقِ بينَ الْمَؤمِنين، لأنَّ
النَميمَةَ نَقْلُ الكلامِ الذي يُثِيرُ العَداوَةَ والشَّحْناءَ والبَغْضاء،
فَيَحْصُلُ بِسَبَبِها الْمُخاصَمَةُ والقَطيعَةُ بينَ الْمُؤْمِنينَ والأقارِبِ
والجيران. ولِذلكَ قال رسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلم: ( لا
يَدْخُلُ الْجنَّةَ نَمَّام ). ومِنْ آثارِ هذا
الحديث: طَهارةُ القَلْبِ مِن الحَسَدِ، لِأنَّ الحَسَدَ تَمَنِّي
زَوَالَ النِّعْمَة، والمُؤْمِنُ الصادِقُ في إيمانِهِ، الذي يُحِبُّ لِأَخِيهِ ما
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ النِعْمَةِ مِن أخيهِ الْمُؤْمِن،
أَوْ يَحْزَنَ إذا رأى أخاهُ المُؤْمِنَ في نِعْمَةٍ دِينِيَّةٍ أوْ دُنْيَوِيَّة.
بَلْ يَفْرَحُ لَهُ كَما يَفْرَحُ لِنَفسِه، ويَدْعُو لَهُ كَمَا َيَدْعُو
لِنَفْسِه. وَمِن آثارِ هذا
الحديث: النَّصِيحَةُ، فإنَّ مَنْ أَحَبَّ لِأخِيهِ ما يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ، لا بُدَّ وأَنْ يَنْصَحَه إِذا رَأَى مِنْه خَطَأً في أَمْرِ دِينِهِ
أَوْ دُنياه، لأنَّه يُخافُ عَلَيهِ، ويَخْشَى عَلَيهِ الضَّرَرَ والْخَطَرَ،
ولِأَنَّ النبيَّ صلى الله عليهِ وسلَّمَ قال: ( الدِّينُ
النَّصِيحَة ). وَمِن آثارِ هذا
الحديث: أَنْ لا يَتَعَرَّضَ الْمُسْلِمُ لِنِساءِ الْمُسلمين
بِتَحَرُّشٍ ولا أَذَى، كَما أَنَّه لا يَرْضَى بِذلك لِزَوجَتِه وبَناتِهِ
وأَخَواتِه، ولذلك لَمَّا جاءَ شابٌّ يَسْتَأْذِنَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلمَ
في الزِّنا، قال له رسولُ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ( أتَحِبُّه
لِأُمِّكَ؟ ) قال: لا. قال: ( ولا الناسُ
يُحِبُّونَه لِأُمَّهاتِهِم ) ، قال:( أفَتُحِبُّه
لِبِنْتِك؟ ) قال: لا. قال: ( ولا الناسُ
يُحِبُّونَه لِبَناتِهِم ) ، قال: ( أَفَتُحِبُّهُ
لِأُخْتِكَ؟ ) قال: لا. قال: ( ولا الناسُ
يُحِبُّونَه لِأَخَواتِهم )... الحديث. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
مُقْتَضَى الأُخُوَّةِ الإِيمانِيَّةِ مِن أَعْظَمِ الْموانِعِ عَن فاحَشَةِ
الزِّنا، أو التَعَرُّضِ لِنساءِ الْمُؤْمِنين. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً
. أَمّا بَعدُ عبادَ الله: وَمِن
آثارِ هذا الحديث: الْحِرْصُ على قَضاءِ حَوَائِجِ الْمُؤْمِنين،
وَتَنْفِيسِ كُرَبِهِم. فَإنَّ الْمُؤِمِنَ إذا رأى أخاهُ في مَأْزَقٍ وكُرْبَة،
جَعَلَ نَفْسَهُ في مَكانِهِ، لِأنَّ الْمُؤْمِنِين كالجَسَدِ الواحِدِ،
وكالبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً. ونَحْنُ اليَوْمَ يا عبادَ اللهِ في أيَّامِ الشتاءِ، وما أَكْثَرَ الْمُحْتاجين لِوَسائِلِ التَدْفِئَةِ
مِنْ لِباسٍ وأَجْهِزَةٍ يَسْتَعِينُونَ بها على مُقاوَمَةِ البَرْدِ القارِس،
لكِنَّهُم لا يَقْدِرُون على تَحْصِيلِها. فلا تَبْخَلُوا عليهِم بِمَدِّ يَدِ
العَوْنِ، ولا تَحْرِمُوا أنْفُسَكُم ثَوابَ السَّعْيِ في حاجَةِ إخْوانِكُم.
وَمَنْ لا يَتَمَكَّنُ مِن الوُصُولِ إلَيْهِم، فَلْيَسْتَعِنْ بِمَنْ لَهُمْ
مَعْرِفَةٌ بِأَحْوالِ الفُقَراءِ والْمُحْتاجِينَ. اللهم
حَبِّب إلينا الإيمانَ وَزَيِّنْه في قُلُوبِنا وكره إلينا الكفر والفسوق
والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح
لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا
زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين
واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين،
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم
سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم
انصر جنودنا، اللهم انصر جنودنا، اللهم انصر جنودنا، اللهم اربط على قلوبهم وثبت
أقدامهم وقوي عزائمهم واشف مرضاهم وتقبل موتاهم في الشهداء، اللهم احفظ بلادنا من
كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم أصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا
الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً،
هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسقِ بلادك
وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت، اللهم أنزل علينا من السماء ماء
مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به الحاضر والباد، اللهم إنا نستغفرك
ونتوب إليك، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك من جميع ذنوبنا، اللهم أغثنا، اللهم
أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد . وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |