إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْن
خطبة جمعة بتاريخ / 1-2-1437 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ، ومبلِّغ الناس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون : إنَّ دين الإسلام دين محبةٍ وألفة ، وتعاونٍ وإخاء ، وصلاح وإصلاح ؛ ألَّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم وجمع كلمتهم على الحق والهدى ، فاجتمعت بالإسلام القلوب المتنافرة والنفوس المتعادية وأصبحوا متآخين ، بل أصبح مثَلُهم مثَل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر .
عباد الله : وهذه الأخوَّة الإيمانية والمحبة الدينية جاء الإسلام على توثيقها وتأكيدها والحث على رعايتها والعناية بها والبُعد عن أسباب ضعفها وزوالها ؛ ولهذا -عباد الله- جاءت النصوص الكثيرة في الحث على التآلف والإخاء والمحبة والتواد والبُعد عن الشحناء والبغضاء والتقاطع والتهاجر والتدابر ، وبيَّن عليه الصلاة والسلام عظم خطورة البغضاء وعظم خطورة التهاجر والتدابر وعظم أثرها على الدين نفسه ؛ روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ؛ الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ ، وَالبَغْضَاءُ هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ)) ، وفي سنن أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)) أي الحالقة للدين .
عباد الله : ومن يتأمل في أمر هذه الحالقة للدين يجد أنها تسري في الناس إذا ضعُف إيمانهم وضعُفت صلتهم بربهم وتكالبوا على الدنيا وأصبحت جُلَّ همِّهم وغاية مقصودهم ؛ فحينئذ تنتشر العداوات وتكثر البغضاء وتفشو القطيعة ويكثر التدابر والتهاجر ، لا لشيء إلا لحطام هذه الدنيا الفانية .
أيها المؤمنون عباد الله : وقد جاءت الشريعة بحثِّ المسلمين على رعاية أمر صلاح ذات بينهم والحث على إصلاح ذات البين لتبقى القلوب المؤمنة صافيةً متوادَّةً متحابة ، لا متقاطعةً متهاجرة متباغضة ، يقول الله عز وجل: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال:1] ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : «هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم» ، وقال الله عز وجل: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:114] ، وقال الله عز وجل: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء:128] ، وقال الله جل وعلا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات:10] ، وقال جل وعلا: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى:40] .
أيها المؤمنون عباد الله : إن أمر الصلح والإصلاح أمرٌ عظيم وشأنه جليل ؛ فما أعظم أثر من يعمل في مجتمعه مصلِحًا بين الناس ، والله جل وعلا يعلم المصلح مِن المفسد ، ولا يصلح سبحانه وتعالى عمل المفسدين .
أيها المؤمنون : إن المصلح بين الناس الساعي في ائتلاف قلوبهم واجتماع شملهم وزوال الإحن والعداوة والبغضاء عنهم ثوابه عند الله عظيم ، بل جاء في الطبراني وغيره من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ)) ، وثبت في سنن أبي داود من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟)) أي ما كان من ذلك نافلةً لا فريضة ، قَالُوا: «بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَالَ: ((إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ)) .
أيها المؤمنون عباد الله : إن المصلح في مجتمعه له شأنٌ عظيم في صلاح المجتمع والتئام شمله ، وائتلاف قلوب أهل الإيمان ، واندحار الشيطان ، وزوال العداوة والبغضاء ؛ فما أعظم أثر المصلحين ، وما أعظم ثوابهم عند رب العالمين ؛ ولهذا -عباد الله- ينبغي لكل عبدٍ مؤمن أن يحرص على هذا الأمر قدر استطاعته ، بل لا تحقرنَّ من المعروف في باب الإصلاح بين الناس أن تُصلح بين طفلين صغيرين ، فكم من عداوةٍ نشبت بين طفلين صغيرين فنمَّاها الشيطان في قلبيهما وبقيت معهما إلى الممات . فما أعظم الصلح وما أعظم الإصلاح بين الزوجين وبين الإخوان وبين الاصدقاء وبين الجيران وبين عموم المتعامِلين احتسابًا لثواب الله وطمعًا في موعوده جلَّ في علاه .
أيها المؤمنون : وإن من الدعوات المأثورة العظيمة في هذا الباب ؛ دعوة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما «اللهم ألِّف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام» ؛ فما أعظم هذه الدعوة وما أحوجنا إلى الإكثار منها .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى .
ثبت في صحيح مسلم وغيره عن نبينا صلى الله عليه وسلم أن الأعمال تعرض يوم الخميس ويوم الاثنين فيغفر لكل امرئ مسلم لا يشرك بالله شيئا إلا من كانت بينه وبين أخيه شحناء ؛ فيقول الله تعالى : أخِّروا هذين حتى يصطلحا .
عباد الله : لنعمل جاهدين على إصلاح ذات بيننا بأن يصلح المرء ما بينه وبين بعض إخوانه من شقاق وخلاف، وأن يعمل أيضًا على إصلاح ذات بين من يعلم بينهم خلافًا وشقاقا ، ولنحتسب في ذلك ثواب الله جل وعلا ، فإن الله عز وجل يحب الصالحين المصلحين ولا يحب الفاسدين المفسدين .
اللهم أصلح ذات بيننا وألِّف بين قلوبنا واهدنا سبُل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصراً ومعِينا وحافظاً ومؤيدا ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم احفظه في حلِّه وترحاله ، اللهم احفظه في حلِّه وترحاله ، وارزقه في سفره البرَّ والتقوى ومن العمل ما ترضى يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه ، أوله وآخره ، علانيته وسره ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت يا رحمن يا رحيم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين ، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثا ، هنيئاً مريئا ، سحًّا طبقا، نافعاً غير ضار ، عاجلاً غير آجل ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر ، اللهم إنا نسألك سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125
|