نعمة الغيث وسيول جدّة
تنبيه هذه الخطبة كانت بتاريخ / 17-12-1430 هـ
الحمْدُ للهِ العظيم المجيد ، القائل سبحانه ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى:28] ، وأشهدُ أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ولا نديد ، وأشهدُ أنّ محمداً عبدهُ ورسوله خير من قام لربِّه مقام الثّناء والحمد والتّمجيد ؛ صلّى اللهُ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه ، ولهم جميعاً من الرّبّ الكريم الرِّضا والمزيد .
أمّا بعدُ معاشر المؤمنين عباد الله : اتّقوا الله تعالى وراقبوهُ سبحانه مراقبةَ من يعلم أن ربّهُ يسمعهُ ويراه .
واذكروا - عبادَ الله- نعمةَ اللهِ عليكم وفضلَهُ ومَنَّه وجودَهُ وكرمَهُ وعطاءَهُ وسخاءَهُ ، واشكروا الله جلّ وعلا على ما تفضَّلَ بهِ ومَنَّ ؛ فإنّ الشُّكرَ مؤذِنٌ بالمزيد ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7] .
عباد الله : شُكْرُ اللهِ جلّ وعلا فيهِ حفظٌ للنِّعمِ الموجودة وطلبٌ وجَلَبٌ للنّعمِ المفقودة ، ولهـٰذا يُقَالُ عن الشُّكرِ إنّهُ الحافظُ والجالب ؛ أي الحافظُ للنِّعمِ الموجودات والجالب للنِّعمِ المفقودات، فما استُجْلبت نعمة ولا استُدفِعت نقمة بمثلِ شُكْرِ الله وحُسْن الثناء عليه وتمام الإقبال عليه جلّ وعلا .
عباد الله : وإذا جدّد الله عزّ وجلّ لعبادهِ منهُ فضلاً وإحساناً فليجدِّدوا في مثلِ هـٰذا المقام ثناءً على ربِّهم وشُكراناً.
عبَاد الله : بينما العبادُ قنطين أَزِلين بين خوفٍ ورجاء ويأسٍ في بعض القلوب إذا بالكريم الرّحمـٰن الجواد المنّان المحسن المعطي جلّ وعلا يبسط الرّحمة ويُغيث العبادَ وينشرُ فضلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بغيثهِ المغيث وعطائهِ العظيم ؛ فأنزل جلّ وعلا غيثاً شَمِلَ حَزْنَ الأراضي وسهلَها وجبالَها وأوديتها وأشجارها وبهائمها ؛ فعمّ الخير وانتشر الغيثُ في البلادِ، وهـٰذه نعمةٌ عظمى ومِنّةٌ كبيرةٌ - عبَاد الله- تستوجب من العبادِ أن يُقبِلوا على الله شكراً لهُ على نعمائه واعترافاً لهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمَنِّهِ وعَطائهِ.
والغيثُ - عبَاد الله - في حقِّ المؤمنين نعمةٌ في كلِّ أحواله ومنّةٌ وعطَاء ؛ حتى من يصاب منهم بغرقٍ أو تلف ممتلكاتٍ أو فقدٍ لأنفسٍ وأرواح أو تعرّضٍ لأضرار فهو في حقِّ المؤمن نعمةٌ في كلِّ حال ؛ فالغريق - عباد الله- شهيد ، والمؤمن المصاب الصّابر لهُ عند الله عزّ وجلّ أجر عظيم ، قال عزّ وجلّ : ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:155-157] ، وفي هـٰذا يقول نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ : (( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ )).
عبَاد الله : وفي الحادث الجلل والمصاب عظيم الألم الذي أصابَ إخواناً لنا في منطقة جُدّة ، إنه -عباد الله- مصابٌ عظيم وخطْبٌ جسيم وفاجعةٌ كبرى ؛ لكنّ عبد الله المؤمن يقف تِجَاهَ هـٰذه النوازل وأمام هـٰذه المصائب وقفة المؤمن الذي في كلِّ أحواله وجميع شؤونه يفزع إلى ربِّه جلّ وعلا ، فكما أنّ المسلمَ -عباد الله- مُطالبٌ في نعمائه ويُسره ورخائه أن يفزع إلى الله جلّ وعلا شاكراً حامداً فكذلك عليهِ عند مصابهِ وشدّته ولَأْوَائه أن يفزع إلى الله صابراً محتسباً ، وكما أنّ الله عزّ وجل يبتلي من شاءَ من عبادهِ بالنعمةِ ليشكروا فإنّه عزّ وجل يبتلي من يشاء من عبادهِ بالنِّقمةِ ليصبروا على الشِّدّةِ واللّأواء .
والمؤمن في كل أحواله في هـٰذه الحياة في امتحانِ وابتلاء - ابتلاء بالنِّعمِ وابتلاءِ بالمصائبِ والنِّقم - يبلو جلّ وعلا عباده بالخير والسّراء والشّدّة والرّخاء ، والواجب على عبد الله المؤمن أن يتلقّى نعم الله بالشّكر وأن يتلقّى المصائب بالصّبر ، وكم تحت البليّة من منحةٍ بل منح ، وكم تحت الشّدّة من فوائدَ عظيمةٍ وخير وفرح ، ولكن لا يَشْعُر بذلك إلا مؤمن فتح الله بصيرته وأَنَار قلبَه بالإيمان وأقبل على ربّه الكريم المنّان .
والمؤمن - عباد الله- لا يُصاب في هـٰذه الحياة بهمّ ولا غمّ ولا حُزْن ولا كَرْب حتّى الشّوكة يُشاكها إلا كفَّر الله عزّ وجلّ بها من خطاياه .
عباد الله : حادث جُدّة فيه عبرةٌ للمعتبرين وعِظَةٌ للمتّعظين ، وفيه بيانٌ لكمال قُدرة الرَّبّ الكريم وعظمة تدبيره وتسخيره وأنّ الأمور بيده جلّ وعلا وأنّه سبحانه لا يُعجزهُ شيءٌ .
وفيه من العبر ضَعْف الإنسان وأنّه لا يدري متى يكون هلاكه وفي أيّ لحظةٍ يكون مُصابه .
ومن العبر العجيبة - عباد الله - أنّ من النَّاس من امتنع من الحجِّ خوفاً من حُمّى الخنازير فكان موتُهُ في مكانهِ في تلك السّيول. ومنهم من توكّل على الله وقصد بيْت اللهِ جلّ وعلا فكان لهُ في ذلك مكاسبَ عِظَام ؛ أقول ذلك تنبيهاً وبياناً أنّ الأمر كلّه بيد الله ، وأنّ نفسًا لا تدري بأي أرض تموت ، وأنّ الإنسان إذا كان أجله في أرض كتب الله له جلّ وعلا لهُ بها حاجة .
من النَّاس - عباد الله - من قدِمَ قبل تلك الليلة بيومٍ أو يومين من أقاصي الدُّنيا ليَلقى حتفه في ذلك المطر، وليلقى حتفه في تلك الفاجعة ، فلا يدري إنسانٌ أين يموت ومتى يلقى ربَّه عزّ وجلّ ، وفي ذلك من العبرةِ والعظة وجوب الاستعداد والتهيُّؤ ليوم المعاد .
من النَّاس - عباد الله - من نجا من تلك السُّيول الجارفة والسَّيل العرمرم ، نجا نجاءً مَنَّ الله عزّ وجلّ عليه به بعد رؤيتهِ للهلاك المحقَّق ؛ ولكنَّه خرج من ذلك السّيل فردًا بلا بيْتٍ يؤويه ، ولا مال يمتلكه ، ولا أسرة يحدِبُ عليها وتحنُّ إليه ، خرج فردًا، وهكذا -عباد الله- يلقى كلٌّ منّا ربَّهُ يوم القيامة فردا .
ففي مثل هـٰذه النّوازل العجيبة والمصائب العظيمة تحيا قلوبٌ غافلة ، وتتّعظ نفوس لاهية، وفيها يتحقّق من أقوامٍ وأقوام حُسْنُ إقبالٍ على اللهِ عزّ وجلّ وتوبةٍ وإنابةٍ إليه ، فكم من أُناسٌ خطّائين ومقبِلين على الآثامِ والخطايا كانت تلك النازلة بابًا لهم إلى العودة إلى اللهِ وصدق اللجوء إلى الله والتوبة إليه سُبحانه والإنابة إليه ، فكانت باب خيرٍ ورحمةٍ وفضل.
عبَاد الله : ألا فلنتّقِ الله عزّ وجل ولنعتبر بآيات الله الكونية وعظاته وعبره الّتي ينزِّلها متى يشاء ويريها عبادَه ليكون فيها حياةً للقلوب وضياءً للنّفوس وإقبالًا على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
اللَّهم إنّا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنّك أنت الله لا إلـٰه إلا أنت أن تجعل قلوبنا قلوبًا حيّة تتّعظ بعظاتك وعِبَرِك يا ذا الجلال و الإكرام . اللَّهم وأغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالغيث المغيث والمطر النّافع والوابل الصّيّب. اللَّهم وإنّا نسألك بأسمائك الحسنى أن تتقبّل إخواننا الذين ماتوا في تلك السُّيول شهداءَ عندك يا حيّ يا قيّوم وأن تتغمَّدهم برحمتك ، وأن ترزق أهلهم الصّبر والسّلوان ، وأن تعوِّضَهم خيراً ، وأن تجيرهم في مصابهم ، وأن تخلُفهم خيراً يا ذا الجلال والإكرام . اللَّهم وأصلح شأننا أجمعين ، واهدنا إليك صراطاً مستقيماً.
أقول هـٰذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية :
الحمْدُ لله عظيم الإحسَان ، واسعٍ الفضل والجود والامتنان . وأشهد أن لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أمّا بعد عبَاد الله : اتَّقوا الله تعالى وراقبوهُ مراقبةَ من يعلم أنّ ربَّهُ يسمعهُ ويراه .
عبَاد الله : إنّ من فوائد المصائب أنّها تكشف معادن الناس وتُظهر أحوالهم ، ففي المصاب الذي حصل في جُدّة ظهرت معادن الناس المتنوِّعة :
· فمن النَّاسِ - عباد الله- من كان لقوةِ شهامتهِ وعظم خيره وشدّة نفعه لإخوانه يُخاطر بنفسهِ مخاطرة عجيبة لإنقاذ غريق ومساعدة ملهوف ومعاونة مكروب في مخاطرةٍ عجيبة لا يعلم بها إلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
· ومن النَّاسِ - عباد الله - من كشف ذلك المصاب عن كرمهِ العظيم وإحسانهِ لإخوانه ؛ ففتح لهم أبوابَ المساعدة وضَيَّفهم في بيته وقدّم لهم زادهُ وزاد أولاده .
· ومنهم - عباد الله- من لم يهدأْ له بال ولم تقرَّ له عين فيما رآه من مُصابٍ حلّ بإخوانه .
· ومنهم - عباد الله- من كان في تلك الحال يستغلُّ إخوانه في ذلك المصاب في جشعٍ مُزْري وطمعٍ فظيع، فيستغلّ حاجةَ إخوانه فيرفعُ سلع البضاعات ويرفعُ سلع أماكن السّكن والشّقق المفروشات ، ويرفعُ سلع إيجار السّيّارات جشعاً وطمعاً يستغلّ فيه ذلك المصاب.
· ومنهم من كان معدنه أشد رداءة من هؤلاء فاستغل هـٰذا المصاب للابتزاز والسّرقة ونهب أموال المصابين بغير حقّ.
وجميع هؤلاء عند الله عزّ وجلّ موعدهم ؛ ليُثيب المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (07) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8] .
واعلموا - رعاكم الله- أنّ الكيّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجزُ من أتْبع نفسَهُ هواها وتمنّى على الله الأمانيّ . و صَلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد . وارضَ اللَّهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللَّهم آمنّا في أوطاننا ووفّق ولاة أمرنا إلى ما تحبّه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام .
اللَّهم وآت نفوسنا تقواها ، زكِّها أنت خير من زكّاها . اللَّهم وأصلح لنا شأننا كلَّه ، اللّهم واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
تنبيه هذه الخطبة كانت سيول مدينة جدة قبل سبع سنوات 1430هـ، رفعت للتذكير بالغيث المبارك الذي نزل على بلاد الحرمين الشريفين، ذكرى وموعظة .
جزى الله الشيخ عبدالرزاق البدر خيرا وشكر الله له ونفع الله به العباد واللبلاد . |