وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
خطبة جمعة بتاريخ / 9-6-1434 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يُضلِل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه ، ولا شراً إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون : لقد أمر الله تعالى في كتابه بالصلاح والإصلاح ، وأثنى على المصلحين ، وجماع الصلاح : توحيد الله وإخلاص الدين له وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتِّباعه وترسم خطاه . وفي مقابل ذلك حذَّر جل وعلا في آياتٍ كثيرة من القرآن من الفساد والإفساد ، وأخبر جل وعلا أنه لا يحب الفساد ولا يحب أهله ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة:205] ، وقال الله تعالى : ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة:64] .
وحذَّر جل وعلا من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها قال الله تعالى : ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة:60] ، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف:56] .
ودعا الله جل وعلا عباده إلى الاتعاظ والاعتبار بأحوال الأمم السالفة وما أحلَّه الله بهم من عواقب وخيمةٍ ونهاياتٍ أليمة ؛ قال الله تعالى : ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف:103] ، وقال الله تعالى: ﴿ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف:86] .
ونهى الله جل وعلا عن اتباع كل مفسد وطاعته ؛ قال الله تعالى : ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف:142] ، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [الشعراء:151-152] .
وأخبر الله جل وعلا أن فساد العباد فسادٌ للأرض والبلاد ؛ قال الله تعالى : ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41] .
وذكر سبحانه نماذج من أحوال الأمم السابقة دعوةً للعباد لأن يتعظوا ويعتبروا في آيات كثيرة في القرآن ، ومن ذلكم قوله جل وعلا عن قوم فرعون : ﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) ﴾ أي في الأرض ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر:12-14] أي لجميع المفسدين في أيِّ زمان وفي أيِّ مكان وفي أيِّ وقت .
أيها المؤمنون عباد الله : والإفساد ضروب كثيرة وأنواع عديدة ؛ أخطرها وأشنعها الإشراك بالله واتخاذ الأنداد مع الله ونشر البدع والأهواء ، فإن ذلك من أعظم الفساد في الأرض بل هو أعظمه وأشنعه وفيه قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف:56] أي بعد أن أصلحها جل وعلا ببعثة النبيين دُعاةً إلى توحيد الله وهُداةً لعباد الله ومرشدين إلى كل حق وفضيلة .
ومن الإفساد في الأرض عباد الله : السحر بأنواعه ؛ فالسحر آفةٌ عظيمة وبلاء خطير ، وتعاطيه فسادٌ عريضٌ في الأرض ، قال الله تعالى : ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس:81] .
ومن الإفساد في الأرض : قطع الطريق وإخافة السبيل وإرعاب الآمنين ؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [المائدة:33] . وهذا التنوُّع في العقوبات راجعٌ إلى تنوع الإفساد الحاصل من هؤلاء .
ومن الإفساد في الأرض : تعاطي الفواحش والرذائل من زنًا ولواط ، ولهذا ذكر الله سبحانه في دعاء لوط عليه السلام ومناجاته لربه أنه قال : ﴿ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ [العنكبوت:30] يعني بذلك : إتيانهم للفواحش والرذائل والخسائس ، مستنجداً بالله طالباً نصره جل في علاه .
ومن الإفساد عباد الله : السرقة وانتهاب الأموال بأيِّ صورةٍ كانت وعلى أيِّ هيئةٍ حصل ذلك ، ولهذا قال الله عز وجل عن إخوة يوسف عليه السلام: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ [يوسف:73] لأنه من المتقرر أن السرقة ضربٌ من ضروب الإفساد في الأرض .
ومن الإفساد عباد الله : ترويج الخمور والمخدرات وما أعظم ضررها على الناس إفساداً وإضرارا ، ولهذا لما ذكر الله عز وجل خمر الجنة ذكره عز وجل بقوله : ﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ﴾ [الطور:23] ؛ فنزَّه خمر الجنة عمَّا في خمر الدنيا من أنواع الفساد وصنوف المضار .
أيها المؤمنون : ومن الإفساد في الأرض ما كان وسيلةً مؤديةً إلى ما سبق من شركٍ أو بدعةٍ أو فاحشةٍ أو سرقةٍ أو غير ذلك ؛ فللوسائل أحكام المقاصد ، ولهذا لما حرَّم الله الزنا حرَّمه بقوله: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء:32] مما يدل دلالةً بيِّنة أن الترويج لكل أمر يفضي إلى الزنا من أغانٍ ماجنة أو رقصٍ خليع أو أفلامٍ خسيسة أو صورٍ هابطة أو غير ذلك كل ذلكم عباد الله معدودٌ من الإفساد في الأرض .
أيها المؤمنون عباد الله : ومن عجيب أمر المفسدين في كل زمانٍ وأوان أنَّ الواحد منهم إذا نُهي عن الإفساد وحُذِّر من ذلك زعم أنه مصلح وليس بمفسد ، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة:11-12] .
وأعجب من ذلك أن بعض المفسدين قد يعطي الأيمان المغلَّظة ويُشهِد الله على قلبه أنه من المصلحين لا من المفسدين ، قال الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة:204-205] .
وأعجب من ذلك وأعجب أن بعض عتاة المفسدين يرمون أهل الصلاح والإصلاح بأنهم هم المفسدون ، واقرأ في ذلك وتعجَّب ما ذكره الله سبحانه عن فرعون إمام المفسدين أنه قال عن موسى عليه السلام إمام المصلحين ؛ قال : ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر:26] .
أيها المؤمنون : ورب العباد جلَّ في علاه بصيرٌ بالعباد مطَّلع على السرائر لا تخفى عليه خافية ، يعلم أهل الصلاح من أهل الفساد ، ويعلم المصلحين من المفسدين ، ويجازي كلاً منهم بما قدَّم ، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة:220] ؛ فهو عز وجل أحاط بالعباد عِلما ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19] ويوم القيامة يجازي كلاً بما قدَّم ؛ فمن أصلح فله ثواب إصلاحه وأجره ، ومن أفسد والعياذ بالله فله عاقبة إفساده الوخيمة ؛ فيبوء بإثم نفسه وآثام من أفسدهم كاملة لا ينقص من أوزارهم شيء .
أصلح الله أحوالنا أجمعين ، وهدانا إليه صراطاً مستقيما . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معادنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمد الشاكرين ، وأثني عليه ثناء الذاكرين ، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه ، أحمده سبحانه بمحامده التي هو لها أهل ، وأثني عليه الخير كله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واعلموا رعاكم الله أن الإصلاح في الأرض بدعوة الناس إلى طاعة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم يُعدُّ صِمام أمانٍ للأمة من الآفات والبليات والكوارث والأسقام ، ويترتب عليه من الخيرات والبركات ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا ، قال الله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود:116-117] .
نعم أيها المؤمنون ؛ إنَّ وجود المصلحين في الأمة صِمام أمانٍ لها من الهلاك ، ولهذا دعا الله عباده إلى العناية بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال الله تعالى : ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران:104] . ولا يزال الناس بخيرٍ ما دام فيهم من يصلح ويحذِّر من الفساد والإفساد ، أما -عياذاً بالله- إذا تخلى الناس عن هذه الشعيرة فإن الخطر عظيم والعقوبة جسيمة ؛ روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِهِ)) أي عقاباً يشمل الصالح والفاسد .
أيها المؤمنون : لنتق الله ربنا ، ولنعمل على صلاح أنفسنا وصلاح أهلينا وأولادنا ، ولنكن من أهل الحق والدعاة إلى الحق ، من المصلحين في الأرض ، وأن نحذر أشد الحذر من سبيل الفساد وطرائق المفسدين ، أعاذنا الله جميعاً من ذلك .
واعلموا -رعاكم الله- أنّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] |