لَا يَرْجُو عَبْدٌ إِلَّا رَبَّه وَلَا يَخَاف إِلَّا ذَنبَه
خطبة جمعة بتاريخ / 12-7-1436 هـ
الحمد لله الكريمِ المنّان ، الرحيمِ الرحمن ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ واسعُ الفضل والعطاء والجود والامتنان ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ، المؤيَّد من ربه بالحجة والبرهان ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه ومن اتَّبعهم بإحسان .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فمن اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه ، وتقوى الله عزَّ وجل : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون عباد الله : كلمة عظيمة قالها الخليفة الراشد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه تُعَدُّ من جواهر الكلام وأتمه وأنفعه وأوفاه ؛ قال رضي الله عنه وأرضاه : «لَا يَرْجُو عَبْدٌ إِلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافُ إِلَّا ذَنبَه» . وعلى هذين -عباد الله- مدار النجاة والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ؛ والرجاء والخوف عملان قلبيَّان لا يطَّلع عليهما ولا يعلم بهما إلا الله تبارك وتعالى ؛ العليم بما في الصدور ، الذي أحاط بكلِّ شيء علما ، وأحصى كلَّ شيء عددا .
أيها المؤمنون عباد الله : والرجاء إنما يكون للخير فيما يؤمِّله ويطمع فيه العبد من خيرات الدنيا والآخرة ، وكل ذلك إنما هو بيد الله عز وجل ؛ فإنه لا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يصرف السيئات إلا هو جلَّ في علاه ، ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس:107] ، ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر:2] . ولهذا وجب على العبد في كل رجائه أن يكون معلقًا قلبه بالله ؛ فلا يرجو إلا الله ، ولا يطمع في نوالٍ في الدنيا والآخرة إلا من الله ، فإن الخير بيده وحده جل في علاه ، لا يعلق قلبه ولا رجاءه لا في نفسه ولا في ذكائه ولا في فهمه ولا قدرته ولا أيضا في أحد من الخلق ، وإنما يعلق رجاءه بالله سبحانه وتعالى ، ولا يكون ذلك منه مجرد دعوى ، فإن من اليسير على كل لسانٍ أن يقول : "ما أرجو إلا ما عند الله" ، لكن تحقيق ذلك عقيدة وإيمانًا في القلب يُثمر ثقة في الله ، وحُسن توكل عليه جل في علاه، وإقبال على طاعته ونيل رضاه ؛ هذا هو المطلوب من العبد الصادق في إيمانه والصادق في رجائه .
أيها المؤمنون عباد الله : الخوف يكون من الشرور والأخطار والسيئات ، ولا يذهب بها ويصرفها عن العبد إلا الله ، وموجب هذه الشرور ذنوب العباد وخطاياهم ، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى:30] أي بسبب ما كسبت أيديكم ، ولهذا لا يخافنَّ عبد إلا ذنبه ، فإن ذنوب العباد هي التي من وراء حصول الشرور والعواقب الوخيمة والأضرار الأليمة في الدنيا والآخرة .
عباد الله : وعندما يكون العبد بهذه الصفة ؛ لا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا من ذنوبه ؛ فإن حياته كلها تستقيم على الطاعة وحُسن العمل والبُعد عن الذنوب وتحقيق التوحيد لله جل في علاه . وليحذر -عباد الله- كل عبدٍ في هذا المقام أن يكون حظه من ذلك مجرد القول والدعوى ، وقد يقع في شيء من ذلك من حيث يشعر أو لا يشعر. روى الإمام أحمد في كتابه الزهد عن معاوية بن قرة قال : «دخلتُ على مسلم بن يسار فقلت له: ما عندي من كبير عمل إلا أني أرجو الله عز وجل وأخاف منه» ، فقال : «ما شاء الله ، من خاف من شيء حذر منه ، ومن رجا شيئًا طلبه ، وما أدري ما حسْب خوف عبدٍ عرَضَتْ له شهوة فلم يدعها لما يخاف ؟ أو ابتلي ببلاءٍ فلم يصبر عليه لما يرجو ؟» قال معاوية : «فإذا أنا قد زكَّيت نفسي وأنا لا أعلم» .
عباد الله : لنجاهد أنفسنا حقيقةً بيننا وبين الله في إصلاح قلوبنا وإقامتها على طاعة الله جل وعلا رجاءً منه وحده وخوفًا وطمعًا وحُسن إقبال عليه جل في علاه ، ومن كان بالله أعرف ؛ كان منه أخوف ، ولفضله أرجى ، وعن معصيته أبعد ، وإلى طاعته أقرب كما قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر:28] .
أيها المؤمنون عباد الله : وعندما يستقيم العبد على هذا الرجاء والخوف إلى أن يتوفاه الله ينال فضلًا عظيمًا وخيرًا عميما لا يعلمه إلا الله جل في علاه ؛ ولنتأمل في ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي المَوْتِ فَقَالَ: ((كَيْفَ تَجِدُكَ؟)) قَالَ: «وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي» ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ)) .
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يصلح قلوبنا أجمعين ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمد الشاكرين ، وأُثني عليه ثناء الذاكرين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتّقوا الله تعالى .
عباد الله : روى الترمذي وغيره عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ)) ؛ هذه الدعوة جُمع فيها -عباد الله- بين أمرين عظيمين : التوحيد والاستغفار ؛ فإنَّ «لا إله إلا الله» كلمة التوحيد ، وقوله «إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» اعترافٌ بالذنب وهو موجب لطلب الغفران .
عباد الله : والتوحيد يفتح للعبد أبواب الرجاء في الدنيا والآخرة ، والاستغفار يغلق عن العبد أبواب الشرور ؛ وما أعظم أن يكون العبد في هذه الحياة مكثرًا من كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» لتفتح له أبواب الخيرات في الدنيا والآخرة ، فإنها مفتاح كل خير وفضيلة ، وأن يكثِر من كلمة «استغفر الله» لتكون مغلقة عنه أبواب الشرور ، وطوبى لمن وجد في صحيفته يوم القيامة استغفارًا كثيرا .
واعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هُدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.
وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمَّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديِّين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيِّدا ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعلهم هداةً مهتدين .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولولاة أمرنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |