اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ
خطبة جمعة بتاريخ / 4-3-1436 هـ
إن الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون عباد الله: إن أوقات المرء في هذه الدنيا أوقاتٌ ثمينة ، وإن كل يوم يعيشه المرء في هذه الحياة مكسبٌ وغنيمة ، وإن مَن لم يحفظ أوقاته ويغنم لياليه وأيامه خسر خسرانًا عظيما .
عباد الله : وما أحوجنا في هذا المقام إلى الموعظة التي يكون بها إيقاظ القلوب وتحريك النفوس وإزالة ما في القلوب من غفلة وما في النفوس من إهمال أو تفريط .
أيها المؤمنون عباد الله : وإنَّ من المواعظ العظيمة ؛ عظيمة التأثير كبيرة الفائدة في هذا الباب - باب صيانة الأوقات وحفظ الأعمار ورعاية الحياة بما يرضي الله تبارك وتعالى- وصية ثبتت عن نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه عظيمة النفع بالغة الأثر ؛ روى الحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: (( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)).
إنها -يا معاشر المؤمنين- موعظةٌ عظيمة لمن وُفق لفهمها وعقل مدلولها ؛ فإنها موعظة عظيمة الأثر .
نعم عباد الله إذا تأملنا في الشباب ؛ فإنها مرحلةٌ من حياة المرء ، مرحلة بهجة ونضارة وقوة ، إلا أن الشباب لا يبقى ولا يدوم ، فكل شبابٍ يعقبه هرم ، ثم إن هذه المرحلة من حياة المرء مرحلة الشباب يُسأل عنها المرء يوم القيامة كما في الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال : ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ - وذكر منها - عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ)) .
ومن لم يوفق لصيانة شبابه ورعاية باكورة عمره وزهرة حياته وقوته ونشاطه في طاعة الله تبارك وتعالى تذهب عليه هذه المرحلة من حياته وعمره سدى وتضيع هبا .
والشاب الموفق -عباد الله- هو من يدرك قيمة هذه المرحلة في حياته فيحفظها بطاعة الله ويجنِّب نفسه فيها كل ما يسخط الله تبارك وتعالى ويغضبه جل في علاه .
أيها المؤمنون عباد الله : وصحة المرء وما يجده من قوةٍ ونشاط وعافيةٍ في حواسه وقواه لا تدوم ولا تستمر ، فكل صحة يعقُبها ضعف ووهن ومرض ، ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم:54] ؛ ولهذا -عباد الله- لا ينبغي للمرء أن يغتر بصحته وعافيته وقوته ونشاطه ، فإن الصحة لا تدوم ولا تبقى ، وإذا ذهبت عن المرء صحته وعافيته ندم أشد الندم أن لم يستعمل صحته وعافيته في طاعة الله جل وعلا . وكثير من الناس -عباد الله- يغتر بصحته وعافيته فيضيِّعها في الآثام ويُذهِبها في المعاصي والحرام ثم يندم حيث لا ينفعه ندم .
أيها المؤمنون عباد الله : وما يجده المرء من مال ووفرةٍ في الخيرات والأرزاق لا تدوم ولا تبقى ؛ فلا المال يبقى لصاحبه ، ولا صاحب المال يبقى لماله ؛ ولهذا على المرء أن لا يغتر بأمواله وتعددها فإنها زخرفٌ زائل ومتاعٌ فان ، والعاقل -عباد الله- من لا يغتر بزهرة الحياة الدنيا ولا يُفتن بأموالها وبهجتها .
عباد الله : وكثير من الناس إذا كان في صحة وعافية ووفرة مال فإنه يميل عياذًا بالله إلى الفساد والطغيان كما قال الله جل وعلا: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق:6-7] ، ولا يسْلم من ذلك إلا من وفقه الله عز وجل وعصمه ونجَّاه .
والفراغ -عباد الله- وهو ما يجده المرء في وقته من سعة يعقبه شغل ؛ فمن لا يغنم أوقاته بالطاعة ذهبت عليه أوقاته بالخسران والحرمان ، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام : (( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ))؛ أي أنهما إذا اجتمعا للمرء صحةٌ في بدنه وفراغٌ في وقته ووفرةٌ في أمواله لا يحسن التصرف بل إنه يميل إلى المعاصي وتشده الآثام إلا من وفقه الله تبارك وتعالى وعافاه .
وحياة المرء في هذه الدنيا ليست حياةً دائمة بل إنه يعقبها موت ، ولكل أجلٍ كتاب ، وإذا جاء أجل المرء لن يستقدم عنه ساعة ولا يستأخر ، والعاقل -عباد الله- من يحرص على اغتنام حياته في طاعة الله تبارك وتعالى وما يقرب إليه ؛ بحيث تكون كل ساعة يحياها وكل يوم يُفسح له في هذه الحياة امتدادًا في الطاعة والإقبال على الله جل وعلا ، وفي الدعاء المأثور عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم : «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي ، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» . وهي دعوة عظيمة مباركة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلنجمع -يا معاشر المؤمنين- لأنفسنا بين حسن الدعاء والالتجاء ، وحسن العمل والإقبال على الله تبارك وتعالى ، والرعاية للأوقات والحفظ للأعمار وحُسن الإقبال على الله العزيز الغفار .
ونسأل الله جل في علاه أن يصلح أحوالنا أجمعين ، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيما ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ؛ إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء ، وهو أهل الرجاء ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرةً وأصيلا , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد عباد الله : اتقوا الله تبارك وتعالى في الغيب والشهادة والسر والعلانية ، اتقوا الله جل وعلا تقوى من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه .
واعلموا -رعاكم الله- أن هذه الحياة الدنيا دار ممرٍ وعبور وليست دار خلودٍ وبقاء ؛ فعن علي رضي الله عنه قال : «ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً ، وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ » .
واعلموا - رعاكم الله - أن الكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني . واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هُدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة .
وصلّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد , وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد , وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا وحافظًا ومؤيدا ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين .
اللهم آت نفوسنا تقواها , وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها , اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى , اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، ونسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ، ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، ونسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك لما تعلم ؛ إنك أنت علام الغيوب . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه , أوله وآخره , علانيته وسره , اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات , ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125
|