صِلَةُ الأَرْحَام
خطبة جمعة بتاريخ / 22-8-1435 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه .
وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون : إنَّ الإسلام دينُ الوفاء والصفاء ، والمحبة والإخاء ، والبرِّ والصلة والإحسان ، ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة:195] .
أيها المؤمنون عباد الله : وإنَّ من الإحسان الذي حثَّ عليه دين الله وجاء الترغيب فيه في شرعه صلة الأرحام ؛ فإنَّ الله عز وجل عظَّم من شأن الرحم وأعلى من قدرها ، وقد قرن جل وعلا الوصية بها بتقواه جل في علاه ، قال الله عز وجل : ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1] أي : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن برُّوها وصِلُوها وأحسِنوا إليها .
معاشر المؤمنين : وإن من تعظيم الإسلام للرحم ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتِ الرَّحِمُ : «هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ» ، قَالَ: «نَعَمْ ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟» قَالَتْ: «بَلَى يَا رَبِّ»، قَالَ: «فَهُوَ لَكِ» )) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22-23] )) .
أيها المؤمنون : ومن تعظيم شأن الرحم ما جاء في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ : مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ)) .
ومن عظيم شأن الرحم -معاشر المؤمنين- ما ثبت في سنن أبي داود عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قَالَ اللَّهُ : أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ)) .
أيها المؤمنون عباد الله : ولقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على صلة الرحم وبيان عظيم شأنها من أول رسالته وبداية بعثته ، ففي صحيح مسلم في قصة إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال : «أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: ((أَنَا نَبِيٌّ)) ، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: ((أَرْسَلَنِي اللهُ)) ، فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: ((أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ)) » .
أيها المؤمنون عباد الله : وفي صلة الرحم من الآثار الحميدة والعوائد المباركة والخيرات العميمة في الدنيا والآخرة ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى ؛ فصِلَتُها معاشر المؤمنين سببٌ لسعة الرزق وكثرته ، وراحة القلب وطمأنينته ، وزيادة العمر وبركته ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) .
أيها المؤمنون عباد الله : والقطيعة -وهي ضد الصلة- شؤمٌ كلها ، ومضرةٌ كلها ، وعواقبها على القاطع وخيمة في الدنيا والآخرة ؛ فهي موجبةٌ للخسران ، ومعقِبةٌ للحرمان في الدنيا والآخرة ، ولو لم يأتِ في ذلك إلا ما ثبت في الصحيح من حديث جُبير بن مطعِم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ)) أي : قاطع رحم.
أعاذنا الله أجمعين من العقوق والقطيعة ، وأصلح لنا شأننا كله ، ورزقنا بمنِّه وكرمه البر والصلة والإحسان ، إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرةً وأصيلا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
أيها المؤمنون عباد الله : وليست صلة الرحم أمرًا على سبيل المكافئة والمعاوضة ؛ بأن تصل من وصلك وتقطع من قطعك ، وإنما الصلة -عباد الله- قربةٌ من القرب وطاعةٌ من الطاعات ، بأن تصل رحمك كلها ، من وصلك منهم ومن قطعك ، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)) .
أيها المؤمنون عباد الله : ومن كان واصلًا لرحمه وإن قطعته فلا يزال معه من الله معونةٌ وتسديدٌ وتأييد ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أَنَّ رَجُلًا قَالَ : «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ » ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : ((لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ )) .
ونسأل الله جل وعلا أن يصلح أحوالنا أجمعين ، وأن يجمعنا على البر والتقوى ومن العمل ما يرضى .
واعلموا - رعاكم الله - أنَّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهُدى هُدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين ، الأئمة المهديين ؛ أبى بكرٍ الصديق ، وعمرَ الفاروق ، وعثمانَ ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعِينا وحافظًا ومؤيِّدا ، اللهم وعليك بأعداء الدِّين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين .
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها . اللهم اهدِنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت . اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجلَّه ، أوله وآخره ، علانيته وسره . اللهم تقبَّل توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجَّتنا ، واهد قلوبنا ، وسدِّد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا .
ربنا إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |