فريق في الجنة وفريق في السعير
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغُ الناسِ شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أَما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا اللَّـه تعالى ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
أيها المؤمنون عباد الله : فريقان جاء الحديث عنهما في مواضع عديدةٍ من القرآن بذكر أعمال كلٍّ وأوصاف كل ؛ جديرٌ بالمؤمن أن يتأمل في آيات القرآن الكريم المشتملة على أوصاف الفريقين وأعمال الفريقين ومآل الفريقين ، لاسيما - عباد الله - وقد انصرفت أذهان كثيرٍ من الناس في هذا الزمن عند الحديث عن الفريق أو الفِرَق إلى أمورٍ هي لعبٌ وهزل ، وإذا قيل مع فريق مَن ؟ أو نحو ذلك لم تنصرف الأذهان إلا إلى ذلك النوع من اللعب واللهو . جدير بنا أمة الإسلام أن نهتدي بهدايات القرآن وأن نتأمل في الفريقين الذَيْن جاء الحديث عنهما في مواضع عديدة من كتاب الله جل وعلا .
عباد الله : إن الله تبارك وتعالى قسَمَ الناس إلى فريقين : فريق منَّ عليهم بالهداية وشرح صدورهم للإسلام ووفقهم لطاعة الرحمن ، وفريق حقت عليهم الضلالة فهم في غيِّهم يعمهون وفي باطلهم يتقلَّبون وعن طاعة ربهم وعبادته سبحانه معرضون ، قال الله تعالى : ﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ [الأعراف:30] .
عباد الله : ولقد بعث الله أنبياءه ورسله وأصفياءه دعاةً إلى الإيمان والحق والهدى ، ونهاةً عن الكفر والباطل والردى ؛ وانقسم الناس تجاه دعوة النبيين إلى فريقين ، قال الله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ [النحل:36] ، وقال الله تبارك وتعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ [النمل:45] أي: فريقٌ قبِل دعوة النبيين وآمن بهم ، وفريقٌ أبى ذلك ولم يرضَ لنفسه إلا الكفر طريقا ؛ ثم هم كما وصف الله ﴿ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي : كلُّ فريق يدَّعي أن الحق معه وأنه هو صاحبه ، وقد جرت العادة - عادة فريق أهل الباطل ، فريق أهل الكفر والضلال - العُجب بحضاراتهم والاغترار بدنياهم ويجعلون ذلك مقياساً على أحقيَّتهم ، وتأمل في هذا قول الله تعالى : ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم:73] أي نحن أم أنتم ؟ وها نحن نتمتع بحضاراتٍ وصناعاتٍ وأمور دنيوية ليس عندكم منها شيء ؛ ﴿ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ !! ونسي هؤلاء أنَّ ما يتحدثون عنه وما جعلوه مقياساً إنما هو حطامٌ زائل ومتاعٌ فان ، ولهذا قال الله تعالى في الآية التي تلي هذه الآية : ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) ﴾ .
أيها المؤمنون عباد الله : وفي حديث القرآن عن الفريقين ضرب الرب جل وعلا مثلاً عظيما يتضح به جليًّا حال الفريقين ويتجلى أمرهما تماما ، قال الله تعالى : ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾ تأمل في هاتين الحالتين ﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود:24] أي : لا يستوي أهل الإيمان بما عندهم من بصيرةٍ ونورٍ وهدايةٍ وضياء ، وأهل الكفر الذين هم في عمايةٍ وضلالٍ وغوايةٍ وصدود .
أيها المؤمنون عباد الله : ومن هدايات القرآن وبياناته العظيمة لحال الفريقين ذِكْر المآلات ؛ مآل هؤلاء ومآل هؤلاء ، وهو مقامٌ جديد بالعناية والتأمل ، قال الله تعالى : ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام:81] أي فريق أهل الإيمان أو فريق الكفر والطغيان ؟ والجواب الذي لا جواب غيره على ذلك هو قول الله تعالى في الآية التي تلي هذه الآية : ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾ .
والحديث عن المآلات - مآلات الفريقين - حديثٌ واسع ، وهو من الأمور التي تكررت بياناً وإيضاحاً وتجليةً في كتاب الله ، من ذلكم قول الله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى:7] ؛ إنه مآلٌ أيها المؤمنون جدير بالتأمل : ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ﴾ أي كتب الله جل وعلا لهم النجاة والفوز والسعادة الأبدية حيث إنَّ الله عزَّ وجل نجَّاهم من النار وجعلهم من أهل الجنة بنعيمها العظيم وخيرها الدائم المستمر ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران:185] ، أما الفريق الآخر فإنه فريق يُركَمُ بعضه على بعض في نار جهنم فيبقون فيها أبد الآباد .
فهذه حال الفريقين وهذا هو مآلهما وجديرٌ بالمؤمن - عباد الله - أن يتأمل في حال الفريقين وأن ينحاز دوماً وأبداً إلى فريق أهل الإيمان سائلاً ربه تبارك وتعالى ومولاه أن يثبِّته على الإيمان وأن يجعله في ركب الهداية وفريق الإسلام ، وأن يعيذه من فريق الضلال والغي والباطل والكفر.
حمانا الله وإياكم ، ووقانا ووقاكم ، وهدانا أجمعين إليه صراطاً مستقيما ، وأصلح لنا شأننا كله .
أقولُ هذا القول وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنب فاستغفروهُ يغفِر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . أَما بعد أيها المؤمنون : اتقوا اللَّـه تعالى .
عباد الله : إن هذه الحياة الدنيا ميدان ابتلاء ودار امتحان بل ومضمار سباق ، وفي هذا المضمار فريقان مرَّ الحديث عنهما وذكر أوصافهما وذكر مآلاتهما ،[ أحدهما داخل المضمار في تنافس وسباق وهم فريق الإيمان ، والآخر خارجه وهم فريق الكفر ].
والواجب على العبد المؤمن أن يتقي الله ربه وأن يجاهد نفسه على اللحوق بركب الإيمان وفريق الطاعة وفئة الإقبال على الله تبارك وتعالى ، وأن يستعيذ بالله من طرق أهل الضلال وسبل أهل الغواية وهي كثيرة لا حدَّ لها ، وقد قال الله تعالى : ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام:153] .
والكيِّس عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني . واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة .
وصلُّوا وسلِّموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنَّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم . اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي كل مكان ، اللهم كن لهم ناصراً ومُعِينا وحافظاً ومؤيِّدا ، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم ، اللهم احقن دماءهم يا رب العالمين . اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحب وترضى ، وأعِنه على البر والتقوى ، وسدِّده في أقواله وأعماله ، وألبسه ثوب الصحة والعافية ، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة . اللهم وفِّق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم . اللهم يا ربنا ويا مولانا وسيدنا وإلهنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تولي على المسلمين أينما كانوا خيارهم ، اللهم ولِّ عليهم خيارهم ، اللهم ولِّ عليهم خيارهم واصرف عنهم شرارهم يا رب العالمين .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله ، أوله وآخره ، سره وعلنه . اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنَّا وما أنت أعلم به منا ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت . ربنا إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
|