شرح حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه وفضل صلاتي الفجر والعصر
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم ومسلمون }. { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذين تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً }. { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً }. أما بعد:-
عباد الله: روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم, إذْ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال ) : أمَا إنكم سترون ربكم كما ترون هذا, لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، ثم قال: ( فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ).
عباد الله: في هذا الحديث العظيم فوائد ينبغي معرفتها:
أولها: بيان عقيدة أهل السنة والجماعة من أن المؤمنين يرون الله في الآخرة، قال الله تعالى: (وجوه يومئذٍ ناضِرة * إلى ربها ناظرة )، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ( وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضرَّاء مُضِرَّة ولا فتنة مُضِلَّة )، وفي صحيح مسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب, فما أُعْطُوا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم )، والأحاديث في هذا الباب كثيرة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة. وهذه الرؤية للمؤمنين خاصة، وأما الكفار فقد قال الله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون). الفائدة الثانية: أن المؤمنين يرون الله دون أن يُصيبهم زحام ونحوه حال رؤيتهم لربهم، لقوله: ( لا تضامون).
الفائدة الثالثة: بيان فضل صلاتي الفجر والعصر، فإن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ( قبل طلوع الشمس ( صلاة الفجر، وقبل غروبها : صلاة العصر.
وقد ورد في فضل هاتين الصلاتين أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى البردين دخل الجنة)، يعني صلاتي الفجر والعصر.
وثبت في صحيح مسلم من حديث عمارة بن رُوَيْبَة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يلج النار أَحَدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها )، يعني: الفجر والعصر.
وما أكثر الذي يتخلفون عن هاتين الصلاتين مع الأسف الشديد، خصوصاً صلاة الفجر فإن أكثر الناس لا يشهدونها, بل ولا يصلونها إلا بعد طلوع الشمس، وما عَلِمَ هؤلاء الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة أن هاتين الصلاتين هما وقتا اجتماع الملائكة، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ، وهو أعلم بهم ، فيقول : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون )، وفي مسند أحمد وصحيح ابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لله عز وجل ملائكة يتعاقبون فيكم، فإذا كانت صلاة الفجر نزلت ملائكة النهار فشهدوا معكم الصلاة جميعا، ثم صعدت ملائكة الليل، ومكثت معكم ملائكة النهار، فيسألهم ربهم – وهو أعلم بهم – ما تركتم عبادي يصنعون؟ قال: فيقولون: جئناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، فإذا كانت صلاة العصر نزلت ملائكة الليل، فشهدوا معكم الصلاة جميعا، ثم صعدت ملائكة النهار، ومكثت ملائكة الليل، قال : فيسألهم ربهم – وهو أعلم بهم – فيقول : ما تركتم عبادي يصنعون ؟ قال: فيقولون : جئناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، فاغفر لهم يوم الدين )، فكيف ترضى لنفسك أيها المسلم أن لا تكون من هؤلاء, فإن الملائكة تَذْكُرُهم عند الله وتدعو لهم بالمغفرة، وأنت قابع في بيتك لا تشهد الصلاة مع المسلمين.
ومما ورد في فضل هاتين الصلاتين: ما رواه بن ماجة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله, فمن أخفر ذمة الله كَبَّه الله في النار على وجهه)، وروى الطبراني أن الحجاج بن يوسف أمر سالم بن عبد الله بن عمر بِقَتل رجل, فذهب سالم رحمه الله إلى ذلك الرجل ثم سأله قبل أن يقتله: أَصَلَّيتَ الصبح؟ فقال الرجل: نعم. فرجع سالم ولم يقتله لعلمه أن من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله. فقال له الحجاج: ما منعك من قتله؟ فقال سالم: حدثني أبي ـ يعني: عبد الله بن عمر ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صلى الصبح كان في جوار الله يوْمَه.( فقال له الحجاج: أنت سمعت هذا؟ فقال سالم: نعم. وثبث في صحيح مسلم عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمَخْمِص فقال: ( إن هذه الصلاة عُرِضت على من كان قبلكم فضيعوها, فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين).
فاتقوا الله عباد الله وعظموا شعائر الله، واعلموا أن أعظم شعائر الله الظاهرة: الصلاة.
فحافظوا عليها مع الجماعة, وأخصُّ بالذكر: صلاتي الفجر والعصر لِما سمعتم في الأحاديث, ولأن من نظر إلى الواقع عرف أن هاتين الصلاتين هما علامة الرجل المحافظ على الصلاة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:-
الفائدة الرابعة في هذا الحديث: وجوب الأخذ بأسباب المحافظة على هاتين الصلاتين, وأنه لابد من مجاهدة النفس في ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا ) خصوصا صلاة الفجر لكثرة المتخلفين عنها.
فينبغي للمسلم أن يأخذ بالأسباب الشرعية والحسية التي من خلالها يحافظ على صلاة الصبح، فمنها: أولا: الوضوء؛ لما ثبت في الصحيحين عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة )، حتى ولو كان الإنسان جُنُباً, لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيرقد أحدنا وهو جُنُب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعم, إذا توضأ للصلاة ) رواه البخاري ومسلم.
ثانيا: قراءة آية الكرسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
الثالث: أن تقول: الله أكبر أربعا وثلاثين مرة, والحمد لله ثلاثا وثلاثين مرة, وسبحان الله ثلاثا وثلاثين مرة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى علياً وفاطمة رضي الله عنهما بذلك.
رابعا: أن تحرص على النوم مبكراً فإن هذا من أعظم الأسباب. وكذلك تستعين بمن يوقظك من أهلك أو بالساعة المنبهة.
خامساً: قراءة سورتي السجدة وهل أتى على الإنسان لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
سادساً: أن تقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين ثم تنفث في كفك ثم تمسح ما استطعت من جسدك؛ تفعل ذلك ثلاثاً لثبوت هذا الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري عن عائشة.
سابعاً: أن تترك الذنوب والمعاصي؛ قال تعالى: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) ولا شك أن الحرمان من صلاة الفجر مع الجماعة من أعظم المصائب. قِيلَ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنَّا لا نقوم الليل؟ فقال:" قَيَّدتكم خطاياكم ". وصدق رضي الله عنه, فإن المعاصي تثقل على العبد فعل الطاعة. كيف تريد أن تصلي الفجر مع الجماعة وأنت تقضي ليلك عند الأفلام, أو السهر على شرب الدخان ولعب الورق ومجالسة من لا يعينك على الطاعة, وغير ذلك مما يقسي القلب ويغضب الله، فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنكم ما خُلِقتم عبثا ولن تتركوا سدى, واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة فحافظوا عليها.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها.
|