التحذيرُ من البدعِ، وبيانُ أسبابِ ظهورها إِنَّ الحَمدَ للهِ،
نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ
أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه،
وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ
لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، عِبادَ اللهِ: اتقُوا اللهَ
تَعالى، واعلَمُوا أَنَّ الاعتِصامَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ نَجاةٌ مِن الوُقُوعِ
في البِدَعِ والضَّلالِ، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ قال ابنُ مَسْعودٍ
رضي اللهُ عنه: ( خَطَّ لَنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم خَطًّا، فقالَ: "هذا سَبِيلُ اللهِ" ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا
عَنْ يَمِينِه وَعَنْ شِمالِهِ، ثم قال: "وهذِه سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْها
شَيْطانٌ يَدْعُو إِلَيْه " ثُمَّ تَلَا ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فَمَنْ أَعْرَضَ عن الكِتابِ والسنةِ،
تَنازَعَتْهُ الطُّرُقُ الْمُضِلَّةُ والبِدَعُ الْمُحْدَثَةُ. والبِدْعَةُ هِي: ما يَتَقَرَّبُ بِه
العَبْدُ إلى اللهَ، وَلَكِنْ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ
رسولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم. وحُكْمُها: أَنَّها
مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا شَدِيدًا، حَتى لَوْ صَلَحَتْ نِيَّةُ فاعِلِها أَوْ
مُعْتَقِدِها، لِقَوْله صلى اللهُ عليه وسلم: ( كُلُّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ, وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النارِ ). وَهِي أَكْبَرُ الذُّنُوبِ بَعْدَ
الكُفْرِ والشِّرْكِ. لِأَنَّها زَيادَةٌ في دِينِ اللهِ، الذي أَكْمَلَ لَنا
الدِّينَ، وأَتَمَّ عَلَيْنا النِّعْمَةَ. قال السَّلَفُ: " الشَّيْطانُ أَفْرَحُ
بِالبِدْعَةِ مِن الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتابُ مِنْها،
والبِدْعَةَ لا يُتابُ مِنْها ". وَصَدَقُوا في ذلك، فإِنَّ العاصيَ الذي يَشْرَبُ
الخَمْرَ، أوْ يَكْذِبُ، أوْ يَسْرِقُ، يَعْلمُ أَنَّه عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَأَنَّه
عَلَى خَطَرٍ إذا لَمْ يَتُبْ. وَأَمَّا مَنْ يَتَقَرَّبُ إلى اللهَ بِالبِدَعِ،
لا يَتُوبُ، لِأَنَّه يَرَى أَنَّه يَعْبُدُ الله بِعَمَلِهِ، بَلْ وَيُنْكِرُ
عَلَى مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْه، وَيَتَفانَا فِي الدعوةِ إلى بِدْعَتِهِ. وَأَخْطَرُ مِنْ ذلك: أَنَّ الجُهَّالَ
يَتْبَعُونَه وَيُصَدِّقُونَه، وَيُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِه، وَيُدافِعُونَ عَنْ
خَطَئِهِ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ باسْمِ الدِّينِ، وَهَذا هُوَ مَكْمَنُ الخَطَرِ. انْظُرُوا إلى أصحابِ
الْمَوالِدِ، ومَنْ يَحْتَفِلُونَ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ. انْظُرُوا إلى مَا يَفْعَلُهُ
الْمُتَصَوِّفَةُ وَغَيْرُهُم، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَبَرُّكِ بِالأَشْخاصِ
والأَماكِنِ والبِقاعِ، وَتعْظِيمِ القُبُورِ والغُلُوِّ فِي أصحابِها. انْظُرُوا إلى الخَوَارِجِ وما
يَفْعَلُونَه بِالْمُسلِمينَ، مِنْ سَفْكِ الدِّماءِ وَقَتْلِ الأبْرِياءِ،
واسْتِحْلالِ الدَّمِ الحَرامِ، بِاسْمِ الجِهادِ وَنُصْرَةِ الدِّينِ. إنَّهُم
يَفْعَلُونَ ذلك عَلَى أَنَّهُم عَلَى خَيْرٍ وهُدًى. وأَسبابُ ظُهُورِ البِدَعِ
يا عِبادَ اللهِ كَثيرَةٌ تَتَلَخَّصُ فِيمَا يَلِي: أولاً: الجَهْلُ بِأَحكامِ
الدِّينِ. وَكُلَّمَا امْتَدَّ الزَّمَنُ وَبَعُدَ الناسُ عَنْ آثارِ
الرِّسالَةِ، قَلَّ العِلْمُ وَفَشَا الجَهْلُ، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه
وسلم: ( إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ
قُلُوبِ العِبادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَماءِ، حَتَّى إذا
لَمْ يُبْقِ عالِمًا، اتَّخَذَ الناسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا،
فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ). فَلَا
يُقاوِمُ البِدَعَ إلا العِلْمُ والعُلَماءُ، فَإِذا فُقِدَ العُلَماءُ، أُتِيحَتْ
الفُرْصَةُ لِلْبِدَعِ أَنْ تَظْهَرَ وَتَنْتَشِرَ، وَلِأَهْلِها أَنْ
يَنْشَطُوا. ثانيا: مِنْ أَسْبابِ
ظُهُورِ البِدَعِ: اتِّباعُ الهَوَى، فَمَنْ أَعْرَضَ عَن الكِتابِ والسُّنَّةِ، اتَّبَعَ هَواه، كَمَا
قال تعالى: ﴿ فإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ
اللَّهِ ﴾، والبِدَعُ
إنَّمَا هِيَ نَسِيجُ الهَوَى الْمُتَّبَعِ. ثالثا: التَعَصُّبُ لِلْآراءِ
والرِّجالِ: فَإِنَّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ واتِّباعِ الدَّلِيلِ
وَمَعْرِفَةِ الحَقِّ، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾، وهذا هُوَ شَأْنُ
الْمُتَعَصِّبِينَ اليَوْمَ مِنْ بَعْضِ أَتْباعِ الْمَذاهِبِ والصُّوفِيَّةِ
والقَبُورِيِّينَ، والْمُنْتَسِبِينَ لِلأَحْزابِ والجماعاتِ، إذا دُعُوا إلَى
اتِّباعِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وَسَلَفِ هذِهِ الأُمَّةِ، وَنَبْذِ ما هُمْ
عَلَيْهِ مِمَّا يُخالِفُ ذلك، احْتَجُّوا بِمَذاهِبِهِم وَمَشايِخِهِمْ وآبائِهِم
وأجدادِهِم وأحْزابِهِم. باركَ اللهُ لِي
وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ
الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي
وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحَمْدُ للهِ عَلى
إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إلهَ
إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى
اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ عِبادَ الله: وَمنْ أسبابِ ظُهُورِ
البِدَعِ: التَشَبُّهُ بالكُفَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ ما يُوقِعُ فِي البِدَعِ. ومِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ
ظُهُورِ البِدَعِ: السُّكُوتُ عَنْها، وعَدَمُ إِنْكارِها، وَكَذلكَ السُّكُوتُ عَنْ
دُعاتِها وَرُعاتِها، وَعَدَمُ فَضْحِهِمْ وَالحَذرِ والتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ. مَعَ
إِهْمالِ السُّنَّةِ وَعَدَمِ الاجْتِهادِ في نَشْرِها. والحِمْلُ
عَلَى عُلَماءِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَبِيرٌ، خُصُوصًا مَعَ هذا الانْفِتاحِ الذي
نَعِيشُهُ والذي يَسْتَغِلُّهُ أَهْلُ البِدَعِ بِكُلِّ ما أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ
وَإمْكاناتٍ. ومِنْ الجُهُودُ التي
يَبْذُلُها أَهْلُ البِدَعِ ضِدَّ عُلَماءِ أَهْلِ السُّنَّةِ، مِنْ أَجْلِ نَشْرِ
بِدَعِهِمْ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَيَسْلَمُ مِنْكُمْ اليَهُودُ والنصارَى
والْمَلاحِدَةُ، ولا يَسْلَمُ مِنْكُمْ أَهْلُ الإسلامِ؟! كُلُّ ذلكَ: مِنْ أَجْلِ
التَنْفِيرِ مِنْ جُهُودِ أهْلِ العِلْمِ، والهُرُوبِ مِنْ رُدُودِ عُلَماءِ
أَهْلِ السَّنَّةِ، وَفَسْحِ المَجالِ لَهُمْ لِنَشْرِ التَّصَوُّفِ، أَوْ
الغُلُوِّ في القُبُورِ والصالِحِينَ، أَوْ تَعْطِيلِ صِفاتِ اللهِ، أَوْ
التَّكفِيرِ والدِّفاعِ عَنْ الجَماعاتِ والأَحْزابِ وَدُعاتِها. وَهذا لا
يَنْبَغِي أَنْ يَنْطَلِيَ عَلى عَوامِّ المسلمينَ، فَضْلًا عَنْ عُلَمائِهم
وَدعاتِهم. فاتَّقُوا اللهَ
عِبادَ اللهِ، وَتَمَسَّكُوا بِكِتابِ رَبِّكُمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صلى الله
عَلَيْه وسلم، ولا تَغُرَّنَّكُمْ البِدَعُ وَإِنْ زَخْرَفَها أصحابُها
بِأَقْوالِهِمْ وَدِعاياتِهِم. اللهم إنَّا
نَعُوذُ بِكَ مِنْ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا
مِنْ أَتْباعِ نَبِيِّكَ صلى اللهُ عليه وسلم ظاهِرًا وباطِنًا، واحشرنا في زمرته
وارزقنا ورود حوضه ومرافقته في أعلى الجنة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم حببّ
إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من
الراشدين. اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا
مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم أصلح أحوال
المسلمين، اللهم أنزل على الْمسلمين رحمة عامة وهداية عامة، اللهم ارفع البلاء عن
الْمستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان
المعتدين، اللهم وفق ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك، واجعلهم من أنصار دينك،
وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات،
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ). وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا : http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|