لِلْغَاْفِلِيْن عَنْ مَرِّ اَلْسِّنِيْن
}الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ {. أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ
، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ ، } وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
، أَرْسَلَهُ : } بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ ؛ } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَاعْلَمُوا
رَحِمَكُمُ اللهُ بِأَنَّنَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ سَنُوَدِّعُ عَامًا هِجْرِيًّا
كَامِلًا مَضَى مِنْ أَعْمَارِنَا ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الْحَيَاةِ ، أَعْوَامٌ تَمْضِي
وَأَعْمَارٌ تَنْقَضِي وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى
: } إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ { ، أَيْ : لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ .
وَعِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَعْوَامِ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - مِنَ النَّاسِ مَنْ
يَفْرَحُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْزَنُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى
هَؤُلَاءِ ، فَالسَّجِينُ يَفْرَحُ بِانْقِضَاءِ عَامٍ مِنْ سِجْنِهِ ، وَآخَرُ يَفْرَحُ
بِانْقِضَاءِ الْعَامِ لِيَقْبِضَ أُجْرَةَ مَسْكَنٍ أَجَّرَهُ ، أَوْ لِحُلُولِ دَيْنٍ
أَجَّلَهُ . وَآخَرُ يَفْرَحُ بِانْقِضَاءِ عَامِهِ مِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةٍ فِي وَظِيفَةٍ
، أَوْ لِزَوَاجٍ أَوْ تَخَرُّجٍ ، وَلَكِنَّ الْفَرَحَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ
مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ النَّفْسِ ، وَعَدَمِ الِاعْتِبَارِ بِمُرُورِ الْأَعْوَامِ
، هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ غَبْنٌ ظَاهِرٌ ، وَدَلِيلٌ قَاْطِعٌ عَلَى الْغَفْلَةِ عَنِ
الْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَكَمَا قَالَ أَحَدُهُمْ :
إِنَّا لَنَفْــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَحُ بِالْأَيَّامِ نَقْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطَعُهَا
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِـــــــــــنَ
الْأَجَلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا
فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ
فِي الْـعَمَلِ
فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّعِظَ بِأَمْسِهِ ، وَيَجْتَهِدَ فِي يَوْمِهِ، وَيَسْتَعِدَّ لِغَدِهِ، يَتَدَارَكُ أَوْقَاتَهُ وَيَحْفَظُهَا وَيَسْتَغِلُّهَا
بِمَا يَكُونُ لَهُ ، لَا بِمَا يَكُونُ وَبَالًا عَلَيْهِ ، فَالْعُمْرُ قَلِيلٌ، وَالْأَجَلُ قَرِيبٌ، وَمَهْمَا عَاشَ الْإِنْسَانُ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ
مِنَ الْمَوْتِ .
ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ
، أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
قَدْ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ دَاعِيًا أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ؛ أَتَاهُ
مَلَكُ الْمَوْتِ ، قَالَ : يَا نُوحُ يَا أَكْبَرَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَيَا
طَوِيلَ الْعُمُرِ ، وَيَا مُجَابَ الدَّعْوَةِ ، كَيْفَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا ؟ قَالَ
: مِثْلَ رَجُلٍ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ لَهُ بَابَانِ ، فَدَخَلَ مِنْ وَاحِدٍ
وَخَرَجَ مِنَ الْآخَرِ .
أَكْثَرُ مِنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً ، وَكَأَنَّهُ دَاخِلٌ مِنْ بَابٍ
وَخَارِجٌ مِنْ آخَرَ ! فَكَيْفَ بِنَا وَأَعْمَارُنَا مِنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ
!
نَعَمْ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ، هَذَا مِقْدَارُ أَعْمَارِنَا ، فَنَحْنُ لَسْنَا
كَنُوحٍ نَعِيشُ مِئَاتِ السِّنِينَ ، الْمُعَمِّرُ
فِينَا مَنْ يَبْلُغُ مِائَةً ، فَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( أَعْمَارُ
أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ
ذَلِكَ )) ، يَعْنِي : الْكَثْرَةُ هُمُ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُونَ السَّبْعِينَ
، فَالَّذِي يَتَجَاوَزُ السَّبْعِينَ فَهَذَا مِنَ الْقَلِيلِ وَحَالَةٌ نَادِرَةٌ
.
سُبْحَانَ اللهِ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ
، مَا أَقْسَى قُلُوبَنَا ! الْأَمْرُ وَاضِحٌ وَبَيِّنٌ ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ مَنْ
يُوَافِيهِ الْأَجَلُ بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِيهِ
قَبْلَ ذَلِكَ ، وَالْقِلَّةُ ، نَعَمِ الْقِلَّةُ ، هُمُ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ
سِنَّ السَّبْعِينَ ، ثُمَّ أَيْضًا يُوَافِيهِمْ أَجَلُهُمْ ، وَكَمَاْ قَاْلَ تَعَاْلَىْ
: } فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ{ .
وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - أَنَّ مُرُورَ الْأَعْوَامِ
عَلَى الْإِنْسَانِ قَدْ يَكُونُ نِعْمَةً وَقَدْ يَكُونُ نِقْمَةً ! فَطُولُ الْعُمْرِ
أَحْيَانًا يَكُونُ شَرًّا وَوَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ . الْعُصَاةُ ؛ كَثْرَةُ أَعْوَامِهِمْ
- إِذَا لَمْ يُبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ - شَرٌّ عَلَيْهِمْ ، فَكُلَّمَا طَالَ عُمْرُ
أَحَدِهِمْ ، اسْتَكْثَرَ مِنْ حُجَجِ اللهِ عَلَيْهِ ، فَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ
أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : (( مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ )) ، قَالَ
: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ )) .
فَالْعَاقِلُ لَا يَغْتَرُّ وَلَا يَنْخَدِعُ بِإِمْهَالِ اللهِ لَهُ ، وَلَا
بِمَا أَعْطَاهُ اللهُ ، يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ : } أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ{ .
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ،
وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ .
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ،
فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى
تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
الْعَاقِلُ هُوَ مَنْ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ ، وَيَتَدَارَكُ تَقْصِيرَهُ ، وَمَعَ
نِهَاْيَةِ اَلْعَاْمِ وَبِدَايَةِ اَلْآخَرِ ، بَلْ فِيْ كُلِّ سَاْعَةٍ وَلَحْظَةٍ
، سَلْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ وَحَاسِبْهَا : مَا حَالُهَا مَعَ الْوَاجِبَاتِ
؟ هَلْ قَامَتْ بِهَا ؟ وَمَا حَالُهَا مَعَ الْمُحَرَّمَاتِ ؟ هَلِ ارْتَكَبَتْ شَيْئًا
مِنْهَا ؟
سَلْهَا عَنْ حُقُوقِ النَّاسِ ؛ كَالْأَرْحَامِ وَالْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ
.
سَلْهَا عَنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْكَ، مِنْ أَيْنَ جَمَعَتْهَا
وَفِيمَا أَنْفَقَتْهَا؟ سَلْ نَفْسَكْ يَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي
تَتَقَلَّبُ فِيهَا لَيْلَ نَهَارَ ، هَلْ أَدَّتْ شُكْرَهَا ؟
خَمْسٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَجْلِسَ مَعَ نَفْسِهِ وَيُحَاسِبَهَا
عَلَيْهَا : أَوَّلًا: الْوَاجِبَاتُ. ثَانِيًا: الْمُحَرَّمَاتُ . ثَالِثًا : حُقُوقُ
النَّاسِ. رَابِعًا: الْمَالُ . خَامِسًا: النِّعَمُ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ ،
وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ ،
اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ ،
اللَّهُمَّ حَبِّبِ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ
إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ، وَاجْعَلْنَا مِنَ
الرَّاشِدِينَ . اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ ،
وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ .
اَلْلَّهُمَّ اِجْعَلْنَاْ مِنْ اَلَّذِيْنَ طَاْلَتْ أَعْمَاْرُهُمْ
وَحَسُنَتْ أَعْمَاْلُهُمْ ، لَاْ مِنْ اَلَّذِيْنَ طَاْلَتْ أَعْمَاْرُهُمْ وَسَاْءَتْ
أَعْمَاْلُهُمْ ، اَلْلَّهُمَّ اَجْعَلْنَاْ لَكَ شَاْكِرِيْنَ ذَاْكِرِيْنَ ، حَاْمِدِيْنَ
عَاْبِدِيْنَ ، مُخْلِصِيْنَ مُنِيْبِيْنَ تَاْئِبِيْنَ ، بِرَحْمَتِكَ يَاْ أَرْحَمَ
اَلْرَّاْحِمِيْنَ .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
عِبَادَ اللهِ :
} إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
{ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ
عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ
مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |