موقفُ المسلمِ مِن المُحسِنِ والمُسيء
مع التذكير بليوث الإسلام في الحد الجنوبي
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنَّ المُسْلِمَ قَدْ يُبْتَلَى بِأذى الآخرين, وبِمَنْ يُسيءُ إليهِ من الناس. وكذلك قد يُبْتَلَى بِمَن يُحْسِنُ إليه, ويَبْذُلُ له المعروف. ومَنْ كانَ حريصاً على تحقيقِ مكارمِ الأخلاق, فإنه لابد وأن يتحلى بِخُلُقَين كريمين, في مُقابلَةِ هذين الإبتلاءَيْن. فيقابلُ الإساءَةَ: بالعفو. ويُقابِلُ الإحسانَ بالمُكافأةِ ورَدِّ الجميل.
أما العفوُ: فإنه بابٌ عَظيمٌ مِنْ أبوابِ مكارِمِ الأخلاق, فهو من أعظمِ صفاتِ أهلِ الجنة. وهو من صفاتِ الأنبياءِ والمتقين والمحسنين. ويكفي أن اللهَ تعالى جعل أجْرَ العَفْوِ لِنفسِه, فأخْفَى قَدْرَ ثوابِه, لِعِظَمِهِ عنده سبحانه, فقال: ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) فجَعَلَهُ اللهُ لِنَفْسِه, وادَّخَرَه يَومَ القيامةِ لِعَبْدِه حِينَ يَلْقاه فيَرَى ما لا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنَ الثَّوابِ العظيم. وفي هذه الآية حَثٌّ مُؤَكَّدٌ على العَفْوِ والمُسامَحَةِ, مِمَّا يدلُّ على أنه مِنَ الخِصالِ التي يُحبُّها الله, ولأن العبدَ يُحِّبُّ أن يُعْفَى عنه, ويُتَجاوزُ عن زلاتِه, فلابُدَّ أن يُعامِلَ الخلقّ بِمِثْلِ ما يُحبُّ أن يُعامِلُوه, ما لَمْ يكن العفوُ فيه ضَرَرٌ وزيادةُ شَرٍّ, لأن الله تعالى حَّثَّ على العفوِ وشَرَطَ الإصلاحَ فيه.
فمقابلةُ الإساءةِ بالعفوِ خَصْلَةٌ كريمة, خصوصاً إذا كانت الإساءةُ بالكلامِ أو التصرفاتُ التي تدلُّ على جهلِ المُسِيء. لأن الإنسان لابد وأن يواجِهَ مثلَ ذلك, فينبغي له أن يُوَطِّنَ نفسَهُ على الحِلمِ وسَعَةِ البالِ وحُسْنِ التصرُّف. ولذلك قال تعالى: ( وإذا خاطَبَهُم الجاهلون قالوا سلاما )، أي: إذا سَفِهَ عليهم أحدٌ بالقول, أو تكلَّم فيهم أحدٌ بشيء فيه جَهْلٌ وسَفَهٌ, لم يُقابِلوا الجهلَ بجهلٍ مثلِه, وإنما يُقابلونه بالكلام الطيب الدَّالِّ على سُمُوِّ النفْسِ والإحسانِ والنُّصْحِ والشفَقَةِ والرحمةِ بِذلكَ المُتُكَلِّمِ الجاهِل, ولاشك أن هذا من أحسنِ الصفاتِ وأكملِها.
والناسُ بالنسبةِ لِمُخاطَبَةِ من أخطأ عليهِم أو جَهِلَ عليهِم بِشَيءٍ أربعةُ أقسام: القسمُ الأول: من يُقابلُ الجهلَ بِجَهْلٍ أشَدَّ منه، وهذه من أسوأِ الصفات. القسم الثاني: من يُقابلُ الجهلَ بجهلٍ مِثلِه، وهذا أيضاً مخالِفٌ لمَا أرشدَ إليه الشارعُ الحكيمُ في الآية الكريمة. القسم الثالث: من يقابل الجهل بالسكوت وعدمِ الردِّ، وهذه صفة طيبة, وتدل على حلمِ الإنسانِ وصبرِه ورزانتِه وعدمِ انفعالِه. القسم الرابع: من يقابل الجهلَ بالإحسان، وهذه الصفةُ أكملُ الصفات, وهي أن تُقابلَ من جَهِلَ عليك بالإحسانِ إليه والدعاءِ له بالرحمةِ والعَفْوِ والمغفرة, وهذه الصفةُ لا ينالها كُلُّ أحد، وإنما ينالها المؤمنون الكُمَّل. قال تعالى: ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم )، وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ( تَحَدَّثَ عن نبيٍّ من الأنبياءِ آذاه قومُه فَجَعَلَ يسْلِتُ الدَّمَ عن وجهِه ويقول: اللهم اغفرْ لِقومي فإنهم لا يعلمون(. قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله في كلامِه عن هذا الحديث: تَضَمَّن هذا الدعاءُ أربعَ مقاماتٍ من مقاماتِ الإحسان, وهو قوله:( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون:( المقام الأول: أنه عفا عنهم. المقام الثاني: أنه دعا لهم بالمغفرة. المقام الثالث: أنه اعتذر لهم فقال: فإنهم لا يعلمون. المقام الرابع: أنه نَسَبَهُم إلى نَفْسِهِ ولم يتبرأ منهم, فقال: " قومي ". ويُذْكَرُ أن رجلاً سبَّ أبا هريرة رضي الله عنه, فقال أبو هريرة: " اللهم إن كان صادقاً فاغفر لي, وإن كان كاذباً فاغفر له ". فيا له مِن خُلُقٍ عَظيمٍ, تَعَلَّمَه هذا الصحابيُّ الجليلُ مِن مِشكاةِ النُبُوَّةَ, والذي نحتاجُه جميعاً, كَيْ نَسْلَمَ مِن كثيرٍ مِن الجَهالاتِ والخلافات.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: الخُلُقُ الثاني: هو مُكافأَةُ المُحْسِن, ورَدُّ الجميل. لأن ذلكَ مِنْ أعظَمِ مكارم الأخلاق. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ ). أي: كافِئُوه على إحسانِه بِخيرٍ منه, أو بِمِثلِه.
ومِنْ أقبَحِ مَسَاوِئِ الأخلاقِ أنْ يأتيَكَ الخيرُ والإحسانُ مِن غيرِك, فلا يَصْدُرُ مِنْكَ ما يَدُلُّ على شُكْرِه, أو الدعاءِ له.
ولا يعني ذلك أنْ يَبُذُلَ الإنسانُ الخيرَ للناس, ثمَّ ينتظرُ منهم المكافأةَ ورَدَّ الجميل. فإن المطلوبَ من العبدِ أن يبذُلَ الخيرَ والمعروفَ للهِ, كي ينالَ الثوابَ من الله.
ومِن أعظَمِ المَعروفِ والإحسان: مَعْرُوفُ الوالِدَين, ولذلكَ أمَرَ اللهُ تعالى بالإحسانِ إليهِما والدعاءِ لهُما مع تَذكيرِ النفسِ بِجَمِيلِهِما أثناءَ الدعاءِ وذلك بِقَولِه: ( كما ربَّيانِي صَغِيرا ).
وهكذا كُلُّ مَن صنعَ إليكم معروفاً, سواءً كان قَوْلِيًّا أو فِعلِيًّا. فإنَّ مُكافأتَه مَشْرُوعة.
ومِنْ أعظَمِ المعروفِ والإحسانِ أيضاً: مَعْرُوفُ المُجاهدين في سبيل الله, الذين يَبذُلُون نفوسَهُم, ويستَرْخِصُونَها في سبيل نُصرَةِ دينِ الله, والدِّفاعِ عن بلادِ الإسلامِ, وحمايَةِ المسلمينَ وصيانَةِ أعراضِهِم ودمائِهِم وأموالِهم. فلا تَنْسَوا يا عبادَ اللهِ ذلك, ولا تَنْسَوا إخوانَكُم لُيُوثَ الإسلامِ في الحَدِّ الجَنُوبي, وما يعانُونَه في سبيلِ الله. فإنَّهُم يَسْهَرون لِتَرتاحُوا, ويَخافُون كَيْ تأمَنُوا, ويَتَعَرُضون للمَخاطِرِ والمَوتِ كي تَسْلَمَ أرواحُكُم. ويَحتَضِنُونَ السِّلاحَ والبندُقِيَّةَ بعيدين عن أهليهِم وزوجاتِهِم وفلذاتِ أكبادِهِم, ونحن في دورنا نحتَضِنُ زوجاتِنا وأولادِنا آمنينَ مُطمَئِنّين.
فنسألُ اللهَ أن يَجْزِيَهُم خيرَ الجزاء, وأن يَرْضَى عنهم, وأن يَحْفَظَهُم, وأن يَربِطَ على قُلُوبِهِم ويَنصُرَهُم, ويَجْعَلَ ما يُقَدِّمونَهُ سبباً لِسعادَتِهِم في الدنيا والآخرة. فإنَّ كُلَّ مُكافأةٍ نَبذُلُها لَهُم حتى ولو كانت مِن أموالِنا, فإنها قليلةٌ في حَقِّهِم.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :