مراقبة العلاّم في رمضان وسائر العام
الحَمْدُ للهِ الخَلَّاقِ العَلِيمِ؛ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَخَلَقَ الإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ؛ فَقَدْ بَلَّغَنَا هَذَا الشَّهْرَ الكَرِيمَ، وَأَمَدَّنَا فِيهِ بِأَنْوَاعِ الطاعة والنَّعِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، عَظِيمٌ شَأْنُهُ، وَاسِعٌ عِلْمُهُ، مَاضٍ حُكْمُهُ، عَدْلٌ قَضَاؤُهُ، لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خيرُ من صام وقام، وَعَلَّمَ أُمَّتَهُ أَحْكَامَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّين، أمّا بعد،
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَجِدُّوا وَاجْتَهِدُوا فِي هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ؛ حَافِظُوا عَلَى الفَرَائِضِ، وَأَتْبِعُوهَا بِالنَّوَافِلِ، لاَزِمُوا المَسَاجِدَ، وَلاَ تُفَارِقُوا المَصَاحِفَ، وتدبّروا آياته تُصيبوا من بركاته، وتفوزوا بهداياته.
= عباد الله: هذه وقفة مع آية عظيمة من سورة العلق، أول سورة نزلت من القرآن؛ قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾؛ آية تهز الوجدان، وتفعل في النفس ما لا تفعله سلطات الدنيا، ولا أحدث التقنيات في عالم المخابرات؛ ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ آية تضبط النوازع، وتقوي الوازع، وتكبح الجماح، وتدعو إلى إحسان العمل وكمال المراقبة؛ جاءت هذه الآية بهذا البيان وبصيغة الاستفهام: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾.
وتحت هذه الآية من اللطائف والأسرار الشيءُ الكثير؛ ففيها إشارةٌ إلى وجوب المراقبة لله تعالى؛ وفيها تهديدٌ لمن يتمادى في الغي؛ ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾؛ وفيها تلويحٌ إلى وجوب الإقصار عن الشر؛ وفيها تلميحٌ إلى أن العلم باطلاع الله عز وجل على الخلائق أمرٌ فطريٌّ لا يحتاج إلى دليل، وفيها تعريضٌ بغباوة مَنْ يجهل هذه الحقيقة أو يكابر في شأنها..
وفي هذا سرٌّ بديعٌ، ودرسٌ عظيمٌ تُفِيد منه الأمةُ بعامة، ويفيد منه الأفرادُ بخاصة؛ فواجب على المصلحين وقادةِ الأمم أن يتنبّهوا لهذا المعنى، وأن يحرصوا على إشاعته في النشء والناس عامة؛ ذلكم أن وازعَ الدين والمراقبة لرب العالمين يفعل في النفوس ما لا يفعله وازعُ القوةِ والسلطان؛ فإذا أَشَعْنَا هذا المعنى في الناس، أرحنا واسترحنا، ووفَّرنا جهوداً كبيرة، جهوداً قد تكون ضائعة في غير ما فائدة؛ فمراقبة الله حارسٌ قويٌّ يمنع الإنسانَ من التفكير في الجرائم والشرور، ويردع عن التقصير في أداء الحقوق والأمانات...
فلا عجب - إذاً - أن تكون هذه الآية في أول سورة نزلت من القرآن الكريم؛ لكي يكون المؤمن على ذُكْرٍ من هذا المقام العالي، الذي إذا تَمَثَّلَه كان في قبيل المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم.. ولما سئل ابن المبارك عن تفسير المراقبة فقال: «كن أبداً كأنك ترى الله عزَّ وجلَّ».
= عباد الله: إن مراقبة الله في الغيب، وخشيته في السر، دليل كمال الإيمان، وسبب حصول الغفران، ووافر الأجر من المنان، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.
والمراقبة سببٌ لأنْ يستظل العبد بظل الرحمن، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ : إِمامٌ عادِلٌ ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبادة الله تعالى، ورَجُلٌ قَلْبُه مُعَلَّقٌ بالمساجد، ورَجُلانِ تَحَابَّا في الله: اجْتَمَعَا عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورجلٌ دَعَتْه اْمرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ فقال: " إِني أَخاف الله "، ورجلٌ تصدَّق بصَدَقَةٍ ، فأَخْفَاهَا حتِّى لا تَعْلَمَ شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه، ورجلٌ ذكر الله خالياً، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " ؛ وإذا نظرت إلى هؤلاء السبعة تجد أن الشيء المشترك والوصف الذي تحقّق فيهم جميعاً هو المراقبة لله تبارك وتعالى، ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)؛ فإن أكثر الناس قد يخشى الله في العلانية، ولكن الشأن كل الشأن: خشية الله في الغيب إذا غاب عن الأعين واختفى عن الأنظار.
كم مِن الناس مَن إذا خلا بمعصيةٍ لم يُبالِ؟!! ، وإذا تحركت قريبٌ منه قطة فزِع، أو دخل عليه طفلٌ صغير هلِع، أو حرك الهواءُ نافذةَ غرفته خاف!! ثم هو مع هذا لم يراقب اللهَ تعالى ولا منه خاف!! ؛ وقد قال عزّ وجل متوعداً لأمثاله ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾.
نعم عباد الله، ما أحوجنا في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه على الناس الفتن، وتفتَّحت أبواب الشرور ولاسيما من خلال هذه الأجهزة والوسائل الحديثة، والتي سرقت منّا الزمان وكسرت الإيمان – ثمّ جَـرَّت علينا شرًا عظيماً وبلاءً مستطيرا.
فيا لله!! ما أجمل أن يستحضر كلُّ واحدٍ منّا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾؛ وما أجمل أن يستشعرها ويردّدها إذا امتدت عينُه إلى خيانة، أو يدُه إلى حرام، أو سارت قدمُه إلى سوء، أو تحرك لسانُه بقبيح!! ما أروع أن تكون هذه الآية نُصْبَ أعيننا إذا أردنا القيام بما أنيط بنا من عمل وتكليف!!.
فاللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وفي السر والعلانية، بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين ، إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الرقيبِ الشهيد، السميعِ البصير، الواسعِ المحيط؛ أحاط بكل شيءٍ علما، وأحصى كل شيءٍ عددا، الظلمةُ عنده نور، والغيبُ عنده شهادة، والسرُّ عنده علانية، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم وعليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
عباد الله: ولعل الصيامَ من أعظم العبادات التي تتجلى بها عبوديةُ المراقبة؛ ذلكم أن الصائم يمسك عن المفطرات طيلةَ النهار، فتراه أميناً على نفسه، متمثلاً هيبةَ مولاه واطلاعَه، فلا تحدِّثه نفسُه بتناول مفطِّرٍ ولو قلّ، ولا يخطر بباله أن يَنْقُضَ صيامه ولو توارى عن الأعين؛ فَيَصِلُ بذلك إلى مرتبة الإحسان.. ولهذا خصّ الله عز وجل الصيام من بين سائر الأعمال بأنه له، وهو يجزي به. فإذا استشعر الصائم هذا المعنى العظيم انبعث إلى مراقبة الله تعالى في شتى شؤونه؛ فالذي يطلع عليه في صيامه مطلع عليه في جميع أحواله وسائر أيامه...
= عباد الله: إذا راقب الإنسان ربَّه، واحترمه في خلواته أظهر الله فضله، ورفع ذكره في جلواته ولابد؛ والجزاء من جنس العمل، وإن لمراقبة الله في الخلوة تأثيرات تَبِيْن في الجلوة!! كم من مؤمنٍ بالله، محترمٍ لربه في الخلوات، يترك ما يشتهي حذراً من عقابه، وإجلالاً لاطلاعه، فيجازيه ربُه الشكور بمحبته وإجلاله؛ فترى عيون الخلق تعظّم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لِمَ!! ؛ فيكون بذلك الفعل كأنه طرَحَ عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبُه فيستنشقه الخلائق، وقد تمتدّ هذه الأراييح بعد الموت على قدرها، فمنهم من يُذكر بالخير مدة ثم يُنسى، ومنهم من يُذكر مائة سنة ثم ذِكرُه يَخفى، ومنهم عباد صالحون وأعلام ناصحون يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكْس هذا مَن هاب الخلق، ولم يحترم في خلوته الخالق الرب، فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الآثام، يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب، وتكف الألسن عن ذكره بالخير ولا يعرفون لِمَ!! ، ثم بعد موته يُنسى، وذِكرُه يُطوى، ومعروفُه يبلى.
فاللهَ اللهَ عباد الله في مُرَاقَبَة ربكم في الخَلَوَاتِ، اللهَ للهَ بِعِمَارَةِ البَوَاطِنِ وإصلاح النِّيَاتِ.
فاللهم رحمتك نرجو، فلا تكلننا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت.. اللهم واصلح قلوبَنا ونياتِنا وأعمالَنا. اللهم ونسألك قلباً سليما ولساناً صادقا، ونسألك اللهم من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب، اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيرا لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرا لنا، اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، وارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير، وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا ونسائنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم انصر جنودنا، اللهم انصر جنودنا، اللهم اربط على قلوبهم وأنزل السكينة عليهم وثبت أقدامهم يا قوي يا عزيز، اللهم اقبل منا ومن المسلمين الصيام والقيام وتجاوز عن التقصير والآثام، وأعتقنا من النار يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=132
|