عبادة غفل عنها الناس في رمضان
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) ، و (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنْ محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله واحمدوه على بلوغ هذا الشهر المبارك واسألوه الإعانة والقبول.
عباد الله هذا الشهر المبارك عبادة لها ميزة وخصيصة يتنافس فيها المسلمون تنافسا محموداً ألا وهي أنه شهر القرآن قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ والناس بحمد الله مقبلون في هذا الشهر على تلاوة القرآن، بل ويجتهد الواحد منهم في تعدد الختمات ابتغاءً للثواب من عند الله فحُقّ لهم هذا التنافس ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ﴾, وباختصار فإن كلام الله سبحانه وتعالى، لا يدانيه كلام وحديثه لا يشابهه حديث، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ .
وقد أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما أعده الله لقارئ القرآن، من أجر كبير وثواب عظيم، وذلك بما رواه عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ حرفا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرم، وميم حرف ". وقال أيضا: " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة "، وغيرها كثير .
إلا أن هناك صنفٌ من الناس وقعوا في غفلة عن مقصد عظيم من مقاصد إنزال القرآن ألا وهو تدبر القرآن خصوصا في هذا الشهر !!!! نعم غفلوا عن التدبر، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ أي بل على قلوب أقفالها فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه فكفى بها زاجرا وواعظاً لمن انشغل بالقراءة عن التدبر . لهذا يا عباد الله فإن المتدبر للقرآن، في قلبه حاجة ماسة لغاية، لا يجدها إلا في القرآن، إن أهل القرآن هم الذين وجدوا في القرآن، شفاء قلوبهم، ودواء نفوسهم، ومنهل عقولهم، وهذا التدبر - يا رعاكم الله - ، لا يكون إلا بمعرفة ألفاظه وما يراد بها، وتأمل ما تدل عليه آياته. قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، إن الأمة بحاجة ماسة لفهم القرآن، لصلاح قلوب أفرادها، وبالقرآن على الحق والدين يكون ثباتها.
أيها المؤمنون، إن الله سبحانه عندما عاتب ذاك الصنف في عدم خشوع قلوبهم بالتأثر بكلامه، حذرهم من التمادي في هجر تدبر القرآن، لأن هذا التمادي يؤدي إلى قسوة القلوب، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾. روى ابن مسعود رضي الله عنه، كما ثبت في صحيح مسلم عن الحالة التي ينتفع فيها القلب بالقرآن فيقول : " إن أقواما يقرؤون القرآن، لا يتجاوز حناجرهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه : نفع " ومصداق ذلك قوله تعالى : ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ .
فالتدبر حال سماع القرآن وتلاوته، يزيد القلب نورا وإيمانا، قال جُندب بن عبد الله رضي الله عنه : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيان فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ".
فمن قرأ بخشوع وخضوع، فبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ ، تلين أي ترق قلوبهم وتسكن، فالقرآن ربيع القلوب، كما أن الغيث ربيع الأرض.
ولقد أثنى الله في كتابه على من تدبر القرآن، وهذه الآيات نفسها تحمل في طياتها صورا وأحوالا، لتدبر القرآن والتأثر به، ومنها قوله تعالى : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ، قال القرطبي رحمه الله : فكانت حالهم - يعني رسول الله وأصحابه - عند المواعظ : الفهم عن الله، والبكاء من الله، ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة، عند سماع ذكر الله، وتلاوة كتابه، فقال : ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ ، فهذا هو وصف حالهم، وحكاية مقالهم".
وقال القرطبي في قوله تعالى : ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ : "حث على تأمل مواعظ القرآن، وتبين أنه لا عذر في ترك تدبر القرآن، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها، لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها، خاشعة متصدعة متشققة من خشية الله، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه، لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده "أ. هـ .
ومن هذا الباب أن الله سبحانه وتعالى ذم من هجر تدبر القرآن، ولم يتفقه الآيات، ولم يتدبر القول في صيغ مختلفة، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ ، قال ابن كثير رحمه الله : " وترك تدبره من هجرانه ".
عباد الله، إن الله أراد لهذه الأمة، أن تقرأ وتعمل، بل تكفّل لمن قرأ وعمل بما قرأ، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما : " تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ودليل ذلك قوله تعالى : ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾.
إن هناك كثير من الأمور تترتب على تدبر القرآن، فإذا وجدت فقد تم حصولها، وإذا فقدت امتنع حصولها أو قل وجودها، ومن هذه الأمور :
1.عظم أجر التلاوة : قال ابن الجوزي رحمه الله : "والصحيح بل الصواب ما عليه معظم السلف، وهو أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة، أفضل من السرعة مع كثرتها ".
2.حصول بركة القرآن وانتفاع القلب به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ومن أصغى إلى كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقله، وتدبر بقلبه، وجد فيه الفهم والحلاوة والهدى، وشفاء القلوب، والبركة والمنفعة، ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على الدرب المستقيم من بعدهم إلى يوم الدين. أما بعد:
إن أمر التدبر ليس صعبا، ولكن هناك أمور تحول بين المرء وتدبر القرآن، بل تمنعه من تدبر القرآن، وتحرمه من كثير الخير، ومنها ( أمراض القلوب والإصرار على الذنوب ).
فهذا يا عباد الله من أعظم ما يصد عن اتعاظ القلب وانشراح الصدر لمواعظ القرآن وحكمه وأحكامه، وفي هذا يقول تعالى : ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾.
وإن من أعظم المعاصي التي تصد القلب عن التدبر: تعلقه بشهوات الدنيا، ومن صور ذلك، النظر إلى الحرام، وسماع الحرام، كالأغاني والتلذذ بكلماتها.
كما أن هناك أنواع لهجران القرآن، أعظمها هجران العمل بالقرآن، ومنها هجران تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه.
قال الحسن البصري رحمه الله : " نزل القرآن ليتدبر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا.وتدبر آياته : اتباعه والعمل بعلمه، أَمَا والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول : لقد قرأت القرآن كله، فما أسقط منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يُرى له القرآن في خلق ولا عمل، ومن أحب أن يعلم ما هو فليعرض نفسه على القرآن، وأن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار".
فيا أيها الأخوة في الله عليكم بالقرآن، باللسان ذكرا، وبالقلب تدبرا، وبالعقل تفكرا، وبالجوارح عملا.
وبعد عباد الله فمما يعين على تدبر كلام ربنا عز وجل عدة أمور :
فمنها الإخلاص في طلب التدبر وتفهمه . ومنها تعظيم الله ومحبته. ومنها جمع القلب وحضوره وإلقاء السمع عند تلاوته. ومنها التوبة والابتعاد عن المعاصي. ومنها النظر في كتب المفسرين المختصرة الموثوقة كالتفسير الميسر. ومنها اختيار الوقت المناسب والخلوة مع الله عز وجل. ومنها كثرة تلاوته ومعاهدة ذلك .
فاللهم لك الحمد أن بلغتنا رمضان، اللهم كما بلغتنا رمضان فارزقنا صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعلنا من الذين يحفظون حروفه ويقيمون حدوده، وانفعنا بالقرآن، ونسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وأن تجعله حجة لنا لا علينا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، واصرف عنا الفتن والشرور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=132 |