وَرَعُ صِدِّيق الأُمَّة – رضي الله عنه –
إن الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعدُ أيّها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى ، وراقبوه جل وعلا مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه ؛ وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله.
أيّها المؤمنون عباد الله : هذه وقفه مع قصةٍ عظيمة تُروى في روائع التحلي بالورع والزهد والتعفف عن الحرام والبعد عن المتشابه والآثام ؛ قصةٌ عظيمةٌ - أيها المؤمنون - ينبغي لكل مؤمن أن يجعلها لنفسه في هذا المقام نِبراسًا ، وقدوةً لاسيما وأنها لخير أمةِ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه .
روى الإمام البخاري في كتابه الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (( كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ : أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ )) ؛ والخراج - عباد الله - ما يقرِّره السيدُ على عبده من مالٍ يحضره له من كسبه .
ووقع لأبي بكر مع النُّعَيْمان بن عمرو - أحد الأحرار من الصحابة - قصةً شبيهةً بهذه ، رواها عبد الرزاق في مصنفه بإسنادٍ صحيح (( أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِمَاءٍ ، فَجَعَلَ النُّعَيْمَان يَقُول لَهُمْ : يَكُون كَذَا ، فَيَأْتُونَهُ بِالطَّعَامِ فَيُرْسِلهُ إِلَى أَصْحَابه ، فَبَلَغَ أَبَا بَكْر فَقَالَ : أَرَانِي آكُل كِهَانَة النُّعَيْمَان مُنْذُ الْيَوْم ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَده فِي حَلْقه فَاْسَتَقَاءَهُ )) .
ولأبي بكرٍ - رضي الله عنه - قصةٌ أخرى في نحوِ هذا أخرجها يعقوب بن أبي شيبة في مسنده من طريق نُبَيح العنَزي ، عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: (( كُنَّا نَنْزِل رِفَاقًا ، فَنَزَلْت فِي رُفْقَة فِيهَا أَبُو بَكْر عَلَى أَهْل أَبْيَات فِيهِنَّ اِمْرَأَة حُبْلَى وَمَعَنَا رَجُل ، فَقَالَ لَهَا : أُبَشِّرك أَنْ تَلِدِي ذَكَرًا ، قَالَتْ نَعَمْ ، فَسَجَعَ لَهَا أَسْجَاعًا . فَأَعْطَتْهُ شَاة فَذَبَحَهَا وَجَلَسْنَا نَأْكُل ، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو بَكْر بِالْقِصَّةِ قَامَ فَتَقَايَأَ كُلّ شَيْء أَكَلَهُ )) .
أيها المؤمنون : إنها قصة عظيمة تُروى في هذا الباب العظيم ؛ باب الزهد والورع والتعفف عن الحرام والبعد عن المتشابه والآثام ، وأبو بكر - رضي الله عنه - الذي تُروى عنه هذه القصة هو الذي روى عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ على سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ )) خرّجه الطبراني . وهو - رضي الله عنه - جديرٌ بهذا المقام الرفيع والمنزلة العلية من الورع ، بل قال بعض السلف - وهو محمد بن سيرين - فيما رواه الإمام أحمد في كتابه الزهد : "لَمْ أَعْلَم أَحَدًا اسْتَقَاءَ مِنْ طَعَام غَيْر أَبِي بَكْر رضي الله عنه ، وذَكَر الخبر المتقدِّم".
عباد الله : جديرٌ بكل مؤمن أن يضع هذه القصة العظيمة نبراساً له لاسيما في زماننا هذا الذي قلَّ حظ كثير من الناس فيه من الورع ، وأصبح عددٌ من الناس لا يبالي فيما يقتاته من طعام ولا فيما يكتسبه من مال ، بل أصبح الأمر لدى بعضهم أن الحلال ما حلَّ في يده والحرام من انحرم من الحصول عليه .
عباد الله : إذا كان أبو بكرٍ - رضي الله عنه وأرضاه - تقيأ هذا الطعام لأنه جاء من هذا الطريق ؛ طريق الكهانة، وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه (( نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ )) ؛ فهي مكاسب خبيثة ، وإذا قام جسدٌ على المكاسب الخبيثة والأطعمة المحرمة فالنار أولى به يوم يلقى الله عز وجل .
عباد الله : وعندما يجد المسلم مثل هذا المثال الرائع والنموذج الرفيع يقف معه وقفةً يحاسب فيها نفسه ؛ هذا صديق الأمة ، وهذه حاله ، وهذا ورعه وهذا زهده وتوقّيه ونزاهته ، وهذا خوفه من الله ومراقبته له جل في علاه ؛ فكيف الشأن بنا نحن وما الذي ينبغي علينا !! .
إن الجدير بالمؤمن - عباد الله - أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله ، وأن يزِن أعماله قبل أن توزن يوم القيامة ، وأن يتأمل في مدخولاته وفي مكتسباته وفي أمواله التي يحصِّلها ؛ فإنه واقف بين يدي الله يوم القيامة ، والله جل وعلا سائله عن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيمَ أنفقه ؟ .
أبو بكر - رضي الله عنه - تقيأ هذا الطعام ليبقى جوفه نظيفاً نقيا ، وليقوم جسده على طعامٍ حلالٍ صافياً لا شائبة فيه ؛ ليعيش حياةً ملؤها الورع والنزاهة ، وليبني جسده على ما أحله الله - تبارك وتعالى- له ، وفيما أحله الله لعباده غنيةٌ عما حرمه جل وعلا .
عباد الله : إن من ينظر إلى واقع كثير من الناس فيما يكتسبونه من أموال ويحصِّلونه على الأعمال يجد أن بعض الناس خفَّ ورعه وضعُفت ديانته وقلَّت خشيته لله تبارك وتعالى ؛ فأصبح بعضهم يمارس ممارساتٍ قائمةٍ على الغش والخداع والمخاتلة والمكر بالناس ، فتجد فيهم من يتطبَّب وليس بطبيب ، ومنهم من يُظهر مهارةً في صناعة وهو ليس من أهلها ، وهكذا في أمورٍ كثيرة وأعمالٍ عديدة يمارس أشياءَ لا يُحسِنُها ويعلم من نفسه أنه لا يتقنها وأنه ليس من أهلها ؛ فيُفسد أكثر مما يُصلِح ، ثم لا يتورع عن أخذ مالٍ عن هذه الأعمال التي لا يُحسنها وليس من أهلها .
وإذا كان ذلك الرجل الذي يأتي بالخراج لصدِّيق الأمة - رضي الله عنه - وهو عبدٌ رقيق لأبي بكر ، والرقيق منافعه لسيده ، وعرفنا معنى الخراج فيما تقدم ، لما جاء لأبي بكرٍ بمالٍ أخذه من كهانة وقد أخبر عن نفسه أنه لا يُحسِنها، والكهانةُ سواءً أحسنها الإنسان أو لم يحسنها فكسْبها حرام ، ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن حلوان الكاهن ؛ وهو ما يأخذه من مالٍ على كهانته . وهكذا الشأن - عباد الله - فيما يأخذه الإنسان من مالٍ على صنائع وأعمالٍ لا يُحسنها ولا يتقنها وليس من أهلها ، يمارس مع الناس مخادعاتٍ وغِشاً واحتيالاً وادِّعاءات ثم لا يبالي بما يزدرده من مال ويتناوله من طعام أخذه من مثل هذه المسالك واكتسبه من خلال هذه الطرائق .
أيها المؤمنون عباد الله : إن واقع الناس في هذا الباب في عددٍ منهم واقعٌ أسيفٌ مرير ؛ ولهذا نحتاج إلى مثل هذه القصة أن تتلى على مسامعنا وأن نقف متأملين في دلالاتها ومتدبرين في معانيها وما يترتب على مثل هذه المواقف الجليلة من نزاهةٍ عظيمة وحياةٍ كريمة وحياةٍ مباركةٍ يوم يلقى العبد ربه يوم القيامة .
أيها المؤمنون : لنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الله ، ولنزن أعملنا قبل أن توزن يوم القيامة ، وفي هذا المقام لا يقنَّط العباد ولا يُيَأَّسون من رحمة الله تبارك وتعالى ؛ فإن باب التوبة – عباد الله - والإنابة إلى الله جل وعلا مفتوحٌ لكل عبد ، والله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، فلا يقل أحدٌ: قد سبق منه تفريطٌ في هذا الباب - قلّ ذلك التفريط أو كثر - أن أبواب الرحمة أمامه مؤصدة وطريق تحصيل الخيرات مغلقة ؛ بل الباب مفتوح والله سبحانه رحيمٌ بعباده وهو جل وعلا القائل : ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر:53].
اللهم أدخلنا أجمعين في رحمتك ، وتب علينا يا توّاب ، اللهم واكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمّن سواك ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُ ربُّنا ويرضى ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
عباد الله : اتقوا الله تعالى؛ فإن في تقواه جل وعلا خلَفاً من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف .
أيها المؤمنون : إن رأس مال المرء في هذه الحياة دينه ، وكل أمرٍ ينكسرُ سوى الدين فله عوَض ، أما الدين إذا انكسر فلا يعوِّضه شيء .
عباد الله : يجب على العبد أن يرعى دينه وأن يصون أمانته وأن يجدَّ ويجتهد في تحقيق النزاهة والزهد والورع ، وتحقيق تقوى الله تبارك وتعالى ، وأن يستعين بربه وسيده ومولاه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَن )) ، والحمد لله أبواب الخيرات مُشْرعة ومهيأة وعلى العبد أن يأخذ بنفسه مأخذ الحزم والعزم وأن يزمَّها بزمام الشريعة مستعيناً بالله طالباً مدده وعونه محققاً قول الله تعالى : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة:5]
هذا وصَلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا )) . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد . وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي ، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنّا معهم بمنّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلّ الشرك والمشركين ، ودمّر أعداء الدين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين .
اللهم أعِنا ولا تُعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا . اللهم اجعلنا لك ذاكرين ، لك شاكرين ، إليك أوّاهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبلّ توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا .
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا بين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا . اللهم متّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، اللهم وأصلح ذات بيننا ، وألف بين قلوبنا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور وبارك لنا في أسماعنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا ، اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك . اللهم اقض عنا الدين وأغننا من الفقر ، اللهم وأصلح لنا شأننا كله يا ذا الجلال والإكرام . اللهم فرج هم المهمومين ، ونفِّس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، وارحم موتانا وموتى المسلمين . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
|