ختام شهر الصيام
الحمد لله العزيز الغفار ، القوي الجبار ، الذي جعل الدنيا دار ممر واعتبار ، والآخرة دار جزاء وقرار , أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، وأشكره على نعمه وفضله المدرار . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، الواحد القهار ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المُصطفى المُختار ، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار ، وأصحابه البرَرة الأخيار ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى طريق الحق والهُدى سار .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لعباده ، الأولين والآخرين ، يقول سبحانه وتعالى : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ : } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ { ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا { ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
ماهي إلا لحظات وساعات ، ونودع شهر رمضان المبارك ، فهذه الجمعة ، هي آخر جمعة في شهر رمضان ، بل قد تكون آخر يوم منه ، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة t ، يقول النبي r : (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )) ، وفي رواية لمسلم ، يقول النبي r : (( إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما )) .
فالشهر قد يكون ـ أيها الأخوة ـ تسعة وعشرين يوما ، وهذا الأمر ثابت شرعا ، فلا ينبغي للمسلم ، أن يكون في نفسه شيء من الحرج أو الضيق ، عندما يكون الشهر ، تسعة وعشرين يوما . بعض الناس ، نسمعهم في هذه الأيام ، يتمنون أن يكون الشهر كاملا ـ هم يقولون ذلك ـ وكأنهم إذا رؤي الهلال يوم التاسع والعشرين ، لم يصوموا رمضان كاملا ، بل بعضهم ، وخاصة بعض كبار السن ـ الحريصين ـ يصومون يوما بعد رمضان ، يسمونه بيوم الغرة . وهذا الأمر ـ أيها الأخوة ـ فيه دليل على الجهل ، وعدم الفقه في الدين ، لأن الشهر ليس له علاقة بالأيام عندما يرى الهلال ، فقد يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين ، وهذا ما أخبر به النبي r ، ففي صحيح مسلم ، عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت لما مضت تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي رسول الله r قالت بدأ بي فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال : (( إن الشهر تسع وعشرون )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
ونحن نودع شهر رمضان المبارك ، نسأل الله U ، أن نكون من الذين أُعتقت رقابهم من النار ، ففي الحديث الذي رواه الإِمامُ أحمدُ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ r قال : (( أُعْطِيَتْ أمَّتِي خمسَ خِصَال في رمضانَ لم تُعْطهُنَّ أمَّةٌ من الأمَم قَبْلَها؛ خُلُوف فِم الصائِم أطيبُ عند الله من ريح المسْك ، وتستغفرُ لهم الملائكةُ حَتى يُفطروا ، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جَنتهُ ويقول : يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُواْ عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك ، وتُصفَّد فيه مَرَدةُ الشياطين فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون إليه في غيرهِ ، ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة ، قِيْلَ يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القَدْرِ؟ قال : لاَ ولكنَّ العاملَ إِنما يُوَفَّى أجْرَهُ إذا قضى عَمَلَه )) ، فنسأل الله ـ أيها الأخوة ـ أن يجعلنا من الذين يغفر لهم في آخر ليلة من ليالي رمضان ، ولا يجعلنا من الخاسرين ، إنه سميع مجيب .
أيها الأخوة :
ومع نهاية هذا الشهر العظيم ، يجدر بنا أن نحاسب أنفسنا ، ونختم شهرنا بالندم على تفريطنا ، والحزن على كل لحظة فاتت علينا دون استغلال ، ولا نكون من الذين يفرحون بانتهاء رمضان ، ليتخلصوا من الصيام والقيام ، وأصوات الأئمة في تلاوة القرآن ، فالحسرة على فوات الطاعات ، والحزن على عدم استغلال القربات ، هو ما يتميز به المؤمن عن غيره ، وما يعرف به التقي من سواه .
المؤمن التقي ـ أيها الأخوة ـ يتألم عندما يفوت عليه أمر يقربه إلى ربه ، كتألم أهل الدنيا ، عندما يفوت عليهم أمر من أمور دنياهم ، تأملوا ـ أحبتي في الله ـ حال بعض أصحاب النبي r ، حينما فات عليهم الجهاد في سبيل الله ، يقول تبارك وتعالى : } إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ { تفيض أعينهم من الدمع ، يبكون ، حزنا وألما وحرقة ، لعدم مشاركتهم في جيش النبي r ، لم يفرحوا ويسروا بجلوسهم في بيوتهم ، بين أهليهم وزوجاتهم ، لم يفعلوا كما فعل المنافقون ، الذين فرحوا ، كما قال تعالى : } فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { .
فانتبهوا لأنفسكم ـ أحبتي في الله ـ وأنتم تودعون هذا الشهر العظيم ، اختموا شهركم بشكر الله U ، وبالتكبير ، كما قال تعالى : } وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { واحرصوا على صلاة العيد مع المسلمين ، فقد رأى بعض أهل العلم بأنه واجبة .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
اعلموا رحمني الله وإياكم ، بأنه يشرع لكم في ختام شهركم ، زكاة الفطر ، وهي فريضة فرضها رسول الله r على المسلمين ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، ففي الحديث يقول عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : فرض رسول الله r زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين .
وزكاة الفطر ـ أخوتي في الله ـ طهرة للصائم مما وقع فيه من لغو ورفث ونحوه ، ونحن والله بحاجة لمثل هذه الزكاة ، قليلة المقدار عظيمة الفائدة .
نحن أخوتي في الله ، أشد حاجة لهذه الزكاة ، من حاجة المساكين لها ، وإن كان المساكين يحتاجونها لتسد جوعتهم يوم العيد ، فنحن نحتاجها لتكون طهرة لنا مما سمعتم في الحديث السابق .
فالله .. الله .. أخرجوا زكاة فطركم من طعامكم ، عن أنفسكم وعمن في بيوتكم ، وما هي إلا صاع مما تطعمون منه ، كما في الحديث عن أبي سعيد الخدري t قال : كنا نخرج في عهد النبي r يوم الفطر ـ يعني قبل الصلاة ، صلاة العيد ـ صاعا من طعام وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر .
اسأل الله U أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، وان يرحمنا برحمته فهو أرحم الراحمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .
اللهم اجعلنا في هذا الشهر العظيم من عتقائك من النار . اللهم اجعلنا من الذين وفقوا لقيام ليلة القدر، واجعلنا فيها وفي غيرها من الليالي من الفائزين .
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لهداك ، واجعل عملهم برضاك ، وارزقهم البطانة الصالحة وابعد عنهم بطانة السوء يارب العالمين . اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم اشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره تدميرا له يارب العالمين . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|