أحوال الناس في رمضان
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي الفضل والإحسان، أهلَّ علينا شهر رمضان، وجعله موسما للعفوِ والغفران، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، وأشهد أنْ محمداً عبدُه ورسوله، المبعوث إلى الثقلين الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
أيُّها النَّاس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه قد حل بكم شهر عظيم، وموسم كريم، إنه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، إنه شهر الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر العتق من النيران، فاغتنموه قبل فواته، فإن السعيد من أغتنم أوقاته، وتاب من سيئاته، وأكثر من حسناته، والشقي من حُرم الخير، من حرمه الله هذه المواسم العظيمة فإنه هو المحروم، ليس المحروم من فاتته الدنيا، ولكن المحروم في الحقيقة من فاتته الآخرة، فاغتنموا رحمكم الله هذه الشهر، واعرفوا قدره، وقدروا له قيمته، واحترموه واشغلوا أوقاته بالطاعات والقربات فإن الفرص لا تدوم، ولا يبقى إلا الحي القيوم، فأنتم لستم تبقون ولا الشهر والأيام تبقى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ).
عباد الله، إن الناس يختلفون في هذا الشهر اختلفا كثيرا فمنهم من لا يعرف هذا الشهر إلا أنه شهر لتنويع المأكل والمشارب والمطاعم فيملئ بطنه من الطعام والشراب ويكسل عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وربما ضيع الفرائض فكيف بالنوافل؟
ومن الناس من لا يعرف هذا الشهر إلا أنه شهر السهر بالليل على اللهو والغفلة والإعراض والقيل والقال، وينام في النهار ولا يؤدي الصلوات المفروضة في أوقاتها ومع الجماعة.
ومن الناس من لا يعرف لهذا الشهر إلا أنه شهر المسلسلات والتمثيليات والمضحكات والمسابقات، مسابقات القمار التي يعد لها أعداء الله ورسوله وأعداء المسلمين، إن أعداءكم قد تنبهوا للإضرار بكم، يعلمون أن هذا الشهر فرصتكم عند الله ويضيعونه عليكم بمثل هذه الترهات وهذه الغفلات فحذروا من ذلك، وجنّبوا أولادكم هذه البرامج الساقطة التافهة المغفلة عن ذكر الله عز وجل التي تخسر أوقاتكم، وتضيع صلواتكم، أين قيمة هذا الشهر يا عباد الله من هذه الأصناف؟ وقليل من الناس من يوفقه الله سبحانه وتعالى لهذا الشهر: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) لكنهم الموفقون، وهم السابقون، وهم الفائزون، وهم الرابحون، وإن كانوا قليل فواحد كالآلف إن أمر عنا.
فاتقوا الله، عباد الله، اغتنموا شهركم، وحفظوا أوقاتكم، وتجنبوا ما يضركم فإن الفرص لا تدوم، والأيام تنتهي، والمواسم تنقضي، حاسبوا أنفسكم مع هذا الشهر ومع غيره، فإنه ليس للإنسان من هذه الدنيا إلا ما قدمه لآخرته من صالح الأعمال، وإلا فالدنيا تزول، والإنسان يموت، والساعات تفوت، ولا يبقى إلا ما قدمه الإنسان لنفسه من خير أو شر، ليس للإنسان من هذه الدنيا إلا عمره الذي يعيشه فانظروا بماذا تفنوا أعماركم؟ وماذا تقضون ليلكم ونهاركم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).
فاتقوا الله، عباد الله، اشكروا الله على أن بلغكم هذا الشهر، وسألوه أن يتمه عليكم بخير، وسألوه أن يعينكم فيه على ما يرضيه، احذروا من التفريط والغفلة والضياع ولا تتبعوا من يصدوكم عن سبيل الله وعن طريق الصلاح والفلاح، فإن الذين يصدون عن سبيل الله كثير وكثير، ووسائل الشر تنوعت في هذا العصر وصارت تصل إلى قعر البيوت وإلى الناس في فرشهم وعلى مناماتهم.
فاتقوا الله، عباد الله، كان في الزمان الأول لا يتأثر بالفتنة إلا من حضرها وذهب إليها، والآن الفتن تأتي إليكم، وأنتم في بيوتكم، وعلى فرشكم.
فاتقوا الله، عباد الله، فإن الخطر عظيم، ولكن الله جعل سبب النجاة جعله في أيديكم، وهذا الشهر العظيم هو من أسباب النجاة لمن وقفه الله، هذا الشهر العظيم يهلُّ على المسلمين وهم مختلفون: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هم مختلفون في سعيهم، فمنهم المحسن في سائر سنته ويكون هذا الشهر زيادة له من الخير، ومنهم المفرط فيتنبه في هذا الشهر ويستدرك ما فاته وما نقص من عمله فيستردك ويتوب فيتوب الله عليه، ومنهم الآبق الشارد عن ربه فيرجع إلى الله ويتوب إلى الله كان قد استجوب النار فيعتقه الله من النار في هذا الشهر إذ رجع إلى الله، وتاب إليه، إن هذا الشهر يربي الناس على فعل الخير، يوقظ الناس من الغفلة، إن هذا الشهر فرصة عظيمة منحها الله لكم فاغتنموه وفقكم الله، كم من يتمنَّ بلوغ هذا الشهر اختاره الموت ولم يدركه، وكم من أدرك ولم يكمله، وكم من كمله ولم يستفد منه، فتعبروا يا أولي الأبصار، فكروا لأنفسكم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ*لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ*لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكرِ الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، واشكروه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، صعد النبي صلى الله عليه وسلم يوما المنبر فقال: "آمِينَ آمِينَ آمِينَ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لما قلت كذا وكذا، قَالَ: "إن جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، اعترضني فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَمَاتَ فَُدْخَلَ النَّارَ، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قال: ومَنْ أَدْرَكَ أبويه أو أَحَدَهما، فلم يبر بهما فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ يا محمد فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ،قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ".
فاتقوا الله، عباد الله، هذا هو شهر رمضان قدم إليكم وهو بين أيديكم وقد مكن الله لكم من استغلاله بالخير فلا تضيعوه كما ضيعتم غيره، لعلى الله أن يختم لكم بصالح الأعمال، لعلى الله أن يجعل هذا الشهر مقيضا لكم في بقية العمر، لعل هذا الشهر أن ينالكم من خيراته وبركاته ما لا تحتسبون.
فاتقوا الله، عباد الله، وعظموا هذا الشهر: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ).
فاتقوا الله، عباد الله، واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابةِ أجمعين، وعن التابِعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللَّهُمَّ دمر أعداء الدين، اللَّهُمَّ دمر أعداء الدين، اللَّهُمَّ اجعل هذا البلد آمناً مستقراً وسائر بلاد المسلمين عامةً يا ربَّ العالمين، اللَّهُمَّ من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، وصرف كيده في نحره، وجعل تدميره في تدبيره إنَّك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ كف عنا بأس الذين كفروا فأنت: (أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً)، (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، اللَّهُمَّ أصرف عنا كيد الكائدين، ومكر الظالمين، وتدبير الفاسقين والمنافقين، اللَّهُمَّ إنا نجعلك في نحورهم فكفنا شرورهم إنَّك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ أنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللَّهُمَّ انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللَّهُمَّ ادفع عنا الغلا والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ إن الكفار طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وضايقوا المسلمين، اللَّهُمَّ أنزل بك بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللَّهُمَّ كافنا شرهم بما شئت، اللَّهُمَّ كافنا شرهم بما شئت، اللَّهُمَّ اكفنا شرهم بما شئت، وادفع عنا خطرهم، اللَّهُمَّ اجعل كيدهم في نحورهم إنَّك على كل شيء قدير، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) اللَّهُمَّ أجعل مكرهم سببا للقضاء عليهم، اللَّهُمَّ دمرهم بما صنعت أيديهم، اللَّهُمَّ إنهم اغتروا بقوتهم وسلاحهم، اللَّهُمَّ اجعله في نحورهم، اللَّهُمَّ أهدم به دورهم، اللَّهُمَّ اكفنا شرهم إنَّك على كل شيء قدير.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكُروه نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
|