محاسبة النفس
الحمد لله المتوحد في جلال البهاء ، المتعالي عن الزوال والفناء ، العليم بجميع الأشياء ، يسمع الدعاء ، ويرى النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ {
بذكرك يا مولى الورى نتنعم
وقد خاب قوم عن سبيلك قد عموا
شهدنا يقينا أن علمك واسع
وأنت ترى ما في القلوب وتعلم
إلهي تحملنا ذنوبا عظيمة
أسأنا وقصرنا وجودك أعظم
سترنا معاصينا عن الخلق جملة
وأنت ترانا ثم تعفو وترحم
إلهي فجد واصفح وأصلح قلوبنا
فأنت الذي تولي الجميل وتكرم
لك الحمد عاملنا بما أنت أهلُهُ
وسامح وسلمنا ، فأنت المسلم
اللهم يا ملاذُنا إذا ضاقت الحيل ، وملجأُنا إذا انقطع الأمل ، اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، وأقر في القيامة عيونَنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، تركنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لكم ولمن كان قبلكم ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
الغفلة عن النفس ، داء خطير ، من أصيب به ، وتمكن منه ، فلا تسأل عن أحواله ، بل ولا عن مآله ، فهو أقل قدرا من الأنعام ، وقد يدخله الله النار، وهذا ـ أيها الأخوة ـ ليس من بنيات أفكارنا ، إنما هو قول الله U ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ { يعني خلقنا وجعلنا } وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ { هذه الآية رقمها 179 في سورة الأعراف .
أولائك كالأنعام ، أي كالبهائم ـ كما قال ابن سعدي في تفسيره ـ أي هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ، ولا يعونه ، ولا يبصرون الهدى ، ولا يعملون به ، كالأنعام السارحة ، لا والله ، بل هم أضل كما قال تبارك وتعالى : } بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ { .
أخي المسلم ، أخي العاقل ، لو شبهك أحد من الناس ، من جيرانك أو من زملائك في العمل ، أو زوجتك ، لو شبهك أحد هؤلاء بواحدة من هذه الأنعام ، فقال لك أنت كالبهيمة ، أو كالبقرة ، أو كالثور مثلا ، ما ذا عساك أن تفعل ؟ ماهي مشاعرك وإلى أي مدى تصل من الغضب ؟ نعم قد تخرج من عقلك وتتصرف معه تصرفا خطيرا بسبب تشبيهه لك !
إذا فاعلم أخي ، أن الله U ، أخبر بأن الذي لا يستعمل جوارحه ، وخاصة قلبه وسمعه وبصره ، بتقوية إيمانه ، والتزامه بدينه ، وطاعة ربه ، إنما هو في غفلة عن نفسه ، أخبر U بأنه أضل من الأنعام ، أي البقر والغنم أحسن حالا منه ، وإن كنت في شك من ذلك ـ أخي الفاضل ـ ارجع إلى الآية السابقة صفحة 174في مصحف مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف .
أيها الأخوة المؤمنون :
فمحاسبة النفس ، وعدم الغفلة عنها ، أمر مطلوب شرعا ، ولذلك قال U : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { .
فمحاسبة النفس ـ أيها الأخوة ـ من أهم الواجبات ، لمن أراد سعادة الدارين ، ونشد محبة الله ورضوانه ، واهتم للبعد عن مزالق الشيطان ، لأن الذين لا يحاسبون أنفسهم ، وينجرفون مع تيار الشهوات ، هم أكثر الناس إتباعا للشيطان ، يقول تبارك وتعالى : } اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ { نعوذ بالله ـ أيها الأخوة ـ أن نكون من حزب الشيطان الخاسرين . ونعوذ بالله أن نكون أضل من الأنعام ، ونعوذ بالله أن نكون من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الفاسقين ، نعم ـ أحبتي في الله ـ لن نكون من هؤلاء إذا كنا نحاسب أنفسنا ، ونوقفها عند كل صغيرة وكبيرة ، فما كان لله أمضيناه ، وما كان من أجل غيره عطلناه ، فلنتق الله ـ أيها الأخوة ـ فمن حاسب نفسه هنا ، سهل عليه الحساب هناك ، يقول عمر بن الخطاب t : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا ، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر : } يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ {
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
محاسبة النفس تكون في أمور خمسة ، هي الواجبات ، والمحرمات ، وحقوق الناس والمال ، والنعم التي نتقلب بها .
خمسة أشياء يجب عليك أخي أن تحاسب نفسك عنها ، وتسألها عن موقفها منها :
أولا الواجبات : فما هي حال نفسك مع ما أوجب الله عليك ، وأول الواجبات التوحيد ، الذي هو حق الله على العبيد ، فاحرص على توحيد الله علما وعملا ، وكذلك بقية الواجبات من صلاة وصيام وحج وزكاة وصلة رحم وغير ذلك مما أوجب الله عليك وسوف يسألك عنه يوم القيامة .
أما المحرمات التي يجب أن يحاسب المرء نفسه عنها ، فمن أخطرها وأضرها الشرك ، وعلى أثره البدع وسائر الذنوب والمعاصي ، من غيبة ونميمة وظلم وكذب وشهادة زور ورشوة وقطيعة رحم وسوء ظن وتجسس وزنا وشرب خمر واستماع آلات لهو وإسبال وحلق لحى وغير ذلك مما حرم الله U وتورط كثير من النفوس أصحابها به .
وأما ثالث الأمور التي يجب أن تحاسب النفس عنه ، فهو حقوق الناس من ظلم أو هتك عرض ، أو غيبة أو أكل مال بباطل ، أو دين أو سرقة .
أيها الأخوة :
وأما رابع الأمور التي يجب أن تحاسب النفس عليه ، فهو المال ، فلا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه ، كما قال النبي e .
وآخرها -أخوتي في الله- النعم التي أنعم الله U بها علينا ، يجب أن نحاسب أنفسنا عنها ، هل قمنا بشكرها ، هل استعملناها بطاعة المنعم بها .
هذه ـ أيها الأخوة ـ خمسة أمور يجب أن نحاسب أنفسنا عنها ، ولا نكون من ضحايا الغفلة.
اسأله U أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، إنه سميع مجيب .
اللهم لا تجعلنا من الغافلين ، وارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى .
اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، وأنت الغني عنا ونحن الفقراء إليك ، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحا غدقا ، عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار ، غيثا تغيث به البلاد والعباد ، وتسقي به الحاضر والباد ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون .
|