الجزاء من جنس العمل
الحمد
لله العزيز الحميد ، الفعال لما يريد ، ذي البطش الشديد ، القائل في كتابه : } مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ،
وبعظيم سلطانه ، } يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده
لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلى
الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ،
وصية الله لنا ولمن كان قبلنا ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا
اللَّهَ {
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن لله U في هذا الكون ، سنن ثابتة لا تتغير ولا
تتبدل ، حري بالمسلم أن ينسج على ضوئها حياته ، ولا يعرض نفسه إلى الاصطدام بها ،
من هذه السنن ـ أيها الأخوة ـ أن الجزاء من جنس العمل ، فعلى ضوء عمل الإنسان يكون
جزاؤه ، إن عمل خيرا ، وجد جزاءه خيرا ، وإن عمل شرا وجد جزاءه شرا ، وكما قال
تبارك وتعالى في سورة النبأ : } جَزَاءً
وِفَاقًا { يقول الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ : أي يجزون بذلك جزاء موافقاً
لأعمالهم من غير أن يظلموا ، قال الله تبارك وتعالى : } إِنَّ اللَّهَ
لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { . فهذا الجزاء موافق مطابق لأعمالهم .
فالجزاء ـ أيها الأخوة ـ من جنس العمل ، وقد
يكون على مستوى الأمة ، وقد يكون على مستوى المجتمع ، وقد يكون على مستوى الأسرة ،
بل وقد يكون على مستوى الفرد ، وهذا ما دلت عليه كثير من نصوص الكتاب والسنة .
فقد تعاقب الأمة بسبب عمل أفرادها ، ويكون
عقابها من جنس عملهم ، هؤلاء ـ أيها الأخوة ـ قوم نوح ، لبث فيهم نبيهم نوح ـ عليه
السلام ـ ألف سنة إلا خمسين عاما ، يدعوهم ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، وفي
النهاية كانوا يسخرون منه ، كما قال تعالى : } وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ
مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ { فكان جزاؤهم من جنس عملهم ، كما قال سبحانه
على لسانه : } قَالَ إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ، فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ
{ ،
يقول
ابن جريج : إن تسخروا منا في الدنيا ، فإنا نسخر منكم في الدنيا والآخرة ، في
الدنيا عند الغرق ، وفي الآخرة عند الحرق .
فالجزاء من جنس العمل ـ أيها الأخوة ـ وكذلك قوم
عاد ، غرتهم قوتهم وأبنيتهم ومصانعهم وبطشهم ، كما قال تعالى : } أَتَبْنُونَ
بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ {
فقالوا كما قال تعالى عنهم : } فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً {
فقوتهم سبب استكبارهم ، وإنكارهم لخالقهم ، وعدم اتباع رسولهم ، فكان لابد أن يكون
جزاؤهم من جنس عملهم ، ولذلك قال تعالى : } أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً
وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا
فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا أي :
ريحًا عظيمة ، من قوتها وشدتها ، لها صوت مزعج ، كالرعد القاصف . فسخرها اللّه
عليهم } سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ
أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ
خَاوِيَةٍ { فدمرتهم وأهلكتهم ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، والجزاء من جنس العمل
.
أيها الأخوة المؤمنون :
وأما الجزاء من جنس العمل على مستوى المجتمع ،
ففي قوم سبأ أكبر برهان ، وأوضح دليل ، وهم مجموعة قبائل ، يسكنون بأرض اليمن ،
أنعم الله U عليهم بنعم عظيمة ، كما وصف الله بلدتهم
بقوله : } لَقَدْ كَانَ
لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ
رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ
طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ { يقول ابن سعدي في تفسيره : بلدة طيبة ، لحسن هوائها ، وقلة وخمها ، وحصول
الرزق الرغد فيها .
يقول U عن
هذه البلدة الطيبة ، التي طغى أهلها وتمردوا على أمر الله ، ولم يشكروا نعمه
سبحانه : }
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ
سِدْرٍ قَلِيلٍ ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا
الْكَفُورَ {
فالجزاء من جنس العمل .
فلنتق الله ـ عباد الله ـ ولنحذر ما يغضب الله U ،
ولنراجع أنفسنا ، فما يحل بنا من قحط وجدب ونكد عيش وغلاء أسعار ، وتسلط أعداء ،
سببه ذنوبنا ومعاصينا ، وصدق الله : } وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم
، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي
ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله
على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك
له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه
وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها
الأخوة المؤمنون :
وكذلك يكون الجزاء من جنس العمل على مستوى الأسر
، وعلى سبيل المثال : قطيعة الرحم ، ففي الحديث الصحيح عن ابي هريرة t أن رسول الله e قال : ((خلق الله الخلق ، فلما فرغ منه قامت
الرحم فقال : مه ، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال ألا ترضين أن أصل
من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب ، قال : فذلك لك )) فالذي يقطع
رحمه يقطعه الله U ، وقد انتهت أسر من الوجود
بسبب قطيعة الرحم ، والجزاء من جنس العمل .
أيها الأخوة :
وأما الجزاء من جنس العمل ، على المستوى الشخصي
، فالأدلة كثيرة ، وما أجمل ما ذكر الله U عن
مريم ابنة عمران ، يقول تعالى : } وَمَرْيَمَ
ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ { فمريم ـ عليها السلام ـ أحصنت فرجها ، حفظته عما
حرم الله ، جعلته محصنا عما يغضب الله ، فكان جزاؤها أن نفخ الله فيه روحه ،
والجزاء من جنس العمل .
اللهم من أرادنا في هذه البلاد
بسوء، فاللهم أشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره سببا لتدميره يا
قوي يا عزيز .
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا
وترحمنا وتتجاوز عنا ، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى
والعفاف والغنى، اللهم
أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء، واحشرنا في زمرة الأتقياء يارب العالمين.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ،
ونعوذ بك من سخطك والنار برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ،
وأنت الرحمن الرحيم ، وأنت أرحم بنا من الأم بولدها ، اللهم إنا نسألك أن ترحم
ضعفنا ، وأن تجبر كسرنا ، وأن تغيث بالإيمان قلوبنا .
اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا
، هنيئا مريعا ، سحا غدقا ، عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار . اللهم لا تؤاخذنا بما
فعل السفهاء منا ، اللهم اغفر لنا وارحمنا ، اللهم تجاوز عنا ، برحمتك يا أرحم
الراحمين . اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك ، انزل علينا الغيث ولا تجعلنا من
الآيسين ، اللهم سقيا رحمة لا عذاب ولا هدم ولا غرق .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله
العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، } وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ { .
|