الطموح
الحمد لله الملك القهار ، العظيم الجبار ، العزيز الغفار ، المتفرد بالإيجاد والاختيار ، والمنزه عن مشابهة الأغيار ، يعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع ، ويصل ويقطع ، } خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، يرحم من قصد جنابه ، ويقرب أولياءه وأحبابه ، ويفتح للتواب أبوابه ، ليجبر الكسير ، ويغني الفقير ، ويغفر الأوزار .
سبحانه من إله :
لو برينا الأشجار أقلام شكر بمداد من دجلة والفرات
لو نقشنا ثناءنا من دمانا أو بذلنا أرواحنا الغاليات
لو نُشرنا في ذاته أو رُمينا برماح فتاكة مشرعات
أو جهدنا نفوسنا في قيامٍ وصيامٍ حتى غدت ذاويات
أو مزجنا نهارنا بدجانا في صلاة وألسنٍ ذاكرات
أو قطعنا مفاوزا من لهيب ومشينا بأرجل حافيات
أو بكينا دما وفاضت عيون بلهيب المدامع الحارقات
ما أبَنَّا عن همسة من معان في حنايا نفوسنا ماكنات
أو أتينا لذرة من جلالٍ أو شكرنا آلائك الغامرات
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المصطفى المختار ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار ، وسلم تسليما كثيرا ما تجدد الليل والنهار .
أما بعد عباد الله :
تقوى الله U وصية الله لنا ولمن كان قبلنا : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ عباد الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
الاختبارات في هذه الأيام ، هي الشغل الشاغل ، والقضية النازلة ، عند أكثر الناس ، فقل ما تجد بيتا من بيوت المسلمين ، ولا أسرة من أسر المجتمع ، إلا وفيه على الأقل طالب أو طالبة ، بانتظار نتيجة عام دراسي ، وحصيلة مرحلة تعليمية ، ولا شك ـ أيها الأخوة ـ في تفاوت هؤلاء في طموحاتهم ، فمنهم من يتطلع للمراكز العالية ، ومنهم من يتمنى أقل مراتب النجاح ، كما قال أحدهم ، وقد سمع أحد زملائه يقول : أتمنى أنجح ولو بتقدير مقبول ، فقال هو : أتمنى النجاح ولو بتقدير ملعون ، وليس هناك تقدير بهذا المسمى ، ولكنه العجز والكسل وعدم الطموح الذي بلغ به مبلغا عظيما أيها الأخوة .
فالطموح أمر مطلوب من المسلم ، ومبدأ مهم في حياته ، ففي صحيح الجامع للألباني ـ رحمه الله ـ عن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ يقول رسول الله r : (( إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ، ويكره سَفْسَافها )) والسفساف هو الحقير الرديء من كل شيء وعمل .
أيها الأخوة المؤمنون :
النفس النبيلة الشريفة ، لا ترضى إلا بمعالي الأمور ، وعظائم الأشياء ، وتترفع عن الصغائر وتسمو عن كل حقير ، وكما قال أحدهم :
لا يدرك المجد من لا يركب الخطرا
ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا صفوا بلا كدر
قضى ولم يقض من إدراكه وطرا
وأحزم الناس من لو مات من ظمأ
لا يقرب الورد حتى يعرف الصَّدَرا
بالأمس القريب ـ أيها الأخوة ـ قابلت أحدهم ، وقد شحب لونه ، وخبثت نفسه ، وضاق صدره ، يبحث عن راق ليرقيه ، والسبب : هو أن رئيسه بالعمل ، أمر بنقله من مكتبه إلى مكتب آخر ، وأمثال هذا كثير ، فكثير هم الذين يحبون الكسل ، ويبحثون عن الراحة التي تجعلهم يراوحون في أماكنهم :
لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
إن ما يحل في المجتمع من فساد إداري ، وتعطيل لمصالح الناس ، سببه هؤلاء الكسالى ، العالة على مناصبهم ، الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية ، ومنافعهم الذاتية ، والمتحققة بأدنى جهد ، وبأقل بذل وعطاء .
أرأيتم ـ أيها الأخوة ـ حرصهم على المناصب ، ومنافقتهم ، وتلميعهم لأنفسهم من أجل المراتب ، وهم ولا شيء ، طموحهم في وصولهم إلى كراسيهم ، ولذلك إذا وصلوا إليها ، وتمكنوا منها ، بانت حقائقهم ، وانكشف زيفهم ، ولا تسأل عن نتائج ذلك .
وما أسوأ ذلك إذا كان في مجال تعليمي أو صحي ، أو جهات خيرية يضن منها الخير والنفع ، ولكنها بيد لا تنفع إلا من يقبلها ، ولا تمتد إلا لمن يتمسح بها .
أيها الأخوة :
فالطموح من الصفات المهمة ، التي ينبغي أن يتصف بها المسلم ، وخاصة المسلم الذي توكل إليه أمور المسلمين ، ويستأمنه ولي الأمر على مصالح الناس ، يستحيل ـ أيها الأخوة ـ أن ينجح عمل يخطط له فاشل ، أو يتميز منتج بيد غشاش ، أو تفلح أمة يتمنى أبناؤها للنجاح تقدير ملعون أو حتى مقبول .
في عيون الاخبار لابن قتيبة ، يقول دكين الراجز ، وهو ممن عاصر الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز ، يقول : أتيت عمر استنجز منه وعدا كان وَعَدَنِيه وهو والي المدينة فقال لي : يا دكين ، إن لي نفسا تواقة ـ ومعنى تواقة : أي تشتاق إلى الشيء وتنزع إليه ـ لي نفسا تواقة ، لم تزل تتوق إلى الإمارة ، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة ، فلما نلتها تاقت إلى الجنة .
فلنتق الله ـ عباد الله ـ ولنعمل ونسعى ونربي ، ونبذل ما بوسعنا ليكون الطموح مبدأ من أهم مبادئ أبنائنا بل وحتى بناتنا ، وها نحن في زمن التحصيل وحصد ثمرات الجهود ، فلا نامت أعين الكسلاء .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، واشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
الوصول إلى معالي الأمور ، من خلق النبلاء ، وعادات الأتقياء ، ففي الإصابة عن سعد بن أبي وقاص t قال : رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله r يوم بدر يتوارى ـ أي يستتر ـ فقلت : مالك يا أخي ؟ قال : إني أخاف أن يراني رسول الله r فيستصغِرَني فيرُدَّني ، وإني أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة ، قال : فعرض على رسول الله r فرده ، فبكى فأجازه . فكان سعد t يقول : فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره ، فقتل وهو ابن ست عشرة سنة .
تأمل أخي الطموح ، قتل في سبيل الله ، رزقه الله ما كان يطمح إليه وهو ابن ست عشرة سنة ، ابن السادسة عشرة من أبناء بعضنا صار دعاية للاعبين كفرة أو فسقة فجره ، الله المستعان ـ أيها الأخوة .
وفي الإصابة أيضا عن سليمان بن بلال t ، أن رسول الله r لما خرج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعا الخروج معه ، فذُكر ذلك للنبي r فأمر أن يخرج أحدهما . فاستهما ـ أي عملا قرعة أيهما يخرج ـ الابن يريد الخروج ، والأب كذلك ، يقول الراوي : فاستهما ، فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد ـ رضي الله عنهما ـ إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم ، فأقم مع نسائك ، فقال سعد : لو كان غير الجنة لآثرتك به ، إني أرجوا الشهادة في وجهي هذا ، فاستهما ، فخرج سهم سعد ، فخرج مع رسول الله r إلى بدر فقتله عمرو بن عبد ود .
هكذا ينبغي أن يكون الشاب المسلم.
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يجعلنا جميعا من الفقهاء في هذا الدين إنه سميع مجيب .
ألا وصلوا على البشير النذير ، والسراج المنير ، كما أمركم اللطيف الخبير ، فقال جل من قائل علميا : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا { وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه )) فاللهم صلي وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وارض اللهم عن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك عز الإسلام ونصر المسلمين، وذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم عليك باليهود المعتدين، وبالنصارى الحاقدين، وبكل من عادى عبادك المؤمنين .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك وتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|