الزكاة ونافلتها
الحمد لله واسع الفضل والإحسان ، الكريم المنان ، المتأذن بالمزيد لذوي الشكران ، يعلم سبحانه ما تخفي خواطر الجنان ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في أي مكان ، } يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، دائم الملك والسلطان ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، أرسله للإنس والجان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والجود والإحسان .
أما بعد ، أيها المسلمون :
اتقوا الله U بفعل أوامره وبالبعد عما نهاكم عنه ، فبذلك أمركم ربكم فقال U من قائل : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
يقول تبارك وتعالى ، في سورة التوبة : } وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ { .
ومنهم : أي من المنافقين ، الذين يظهرون الإسلام ومحبتهم له ، ولكنهم يكرهونه في دواخلهم ، ويكرهون أوامره وواجباته ، فهذا واحد منهم ، رجل كان فقيرا معدما ليس عنده شيء من المال ، فعاهد الله ، أي أعطى الله عهدا وميثاقا لئن أغناه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين ، فلما أنعم الله U عليه بالمال ، أصابه البخل ، وامتنع عن تأدية ما أوجب الله عليه ، فلم يفي بما قال ، ولم يصدق فيما ادعى ، فأعقبه هذا الصنيع نفاقا سكن في قلبه ـ نسأل الله السلامة والعافية .
وصدق الله U : } كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى { كثير هم الذين تتغير أحوالهم بعد الغنى ، فإذا كثرت أموالهم ازدادوا طغيانا ، وفعلوا ما لايرضي خالقهم ، كحال هذا المنافق نسأل الله العافية .
أيها الأخوة المؤمنون :
ونحن نذكر قصة ذلك المنافق ، الذي ابتلاه الله بالمال ، نذكر بأمر الزكاة ، التي هي أحد أركان الإسلام ، والتي هي قرينة الصلاة فقلما تجد آية في كتاب الله تتحدث عن الصلاة ، إلا وتجد الأمر بالزكاة مقرونا بها ، وهذا دليل على عظم شأنها ، ودليل على أهميتها ، وقد أهتم بها النبي e اهتماماً خاصاً فقد كان يبعث السعاة لقبضها من الأغنياء وجبايتها ، ثم توزيعها على مستحقيها .
وقد سار على ذلك خلفاؤه الراشدون ـ رضي الله عنهم . حتى أن الصديق t بعد أن توفي الرسول e وهم بعض الناس بمنع الزكاة ، قاتل من هم بذلك حتى أخضعه لحكم الله . وهو القائل لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة . نعم أيها الأخوة : لا فرق بين الصلاة والزكاة ، الذي أمرك بالصلاة يا عبد الله ، هو الذي أوجب عليك الزكاة ، إن كنت من الذين تجب عليهم .
فشأن الزكاة شأن عظيم ، ومن جحد وجوبها ـ أي قال ليست بواجبه ـ فهو والعياذ بالله كافر مرتد عن دين الإسلام ، يستتاب فإن تاب وأقر بوجوبها وأداها ، وإلا قتل . وأما من منعها بخلاً مع إقراره بوجوبها ، أي أقر بأن الزكاة واجبه ، ولكنه أصيب بالبخل ، فهذا وأمثاله تؤخذ منه قهراً ويؤدب تأديباً رادعاً ، وإذا رفض فإنها تؤخذ منه حتى ولو وصل الأمر إلى القتال وهذا ما اتفق عليه الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين . فقد اتفقوا على قتال ما نعي الزكاة .
أيها الأخوة المؤمنون :
هذه عقوبة ما نع الزكاة في الدنيا ، مع ما قد يعاقب به من تلف أمواله بآفة سماوية من حريق وغيره .
وأما عقوبتهم في الآخرة ، فيقول الله تعالى :
} وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{ .
والرسول e يقول : (( من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع )) ـ أي ثعبان ـ (( له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه )) أي بشدقيه (( فيقول : أنا مالك أنا كنزك )) . ثم تلا الرسول e الآية السابقة . ويقول الله تعالى عن مانعي الزكاة :
} وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ { ـ أي يجمعون الأموال وتجب فيها الزكاة ، ولكنهم لا يخرجوا الزكاة ؛ يجمعون الأموال ويضعونها في بنك أو عندهم في بيوتهم ، أو يدفنونها في الأرض ، أو يضعونها في أي مكان ، القصد ولا ينفقونها في سبيل الله ، لا يؤدون زكاتها ، فماذا لهم ؟ أسمعوا ماذا لهم ؟ يقول جل جلاله : } فَبَشِّرْهُمْ { : ابشروا ، أيها المتهاونون بأمر الله ، بماذا نبشرهم يا الله ؟ قال سبحانه : } فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ { . عبد الله ، انتبه ، عبد الله أحذر فقد ثبت عن النبي e أنه قال (( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنباه وظهره ، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار )) .
يقول ابن مسعود t لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم على حدته .
أيها الأخوة المؤمنون :
وأما الأشياء التي تجب فيها الزكاة ، فهي أربعة أنواع : الأثمان ، وعروض التجارة ، وبهيمة الأنعام ، والخارج من الأرض ، فتجب الزكاة في النقدين الذهب والفضة وما يقوم مقامها من الأوراق النقدية المستعملة في هذا الزمان . تجب في عروض التجارة وهي السلع المعروضة للبيع ، كالسيارات والأقمشة والأطعمة والأسهم وقطع الغيار ونحو ذلك .
وكذلك تجب الزكاة في الخارج من الأرض وفي بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بشروط واعتبارات معروفة ، يجب على المسلم الذي تجب عليه الزكاة ، يجب عليه أن يكون على علم بها .
وأما أهل الزكاة ، الذين يجب أن تصرف لهم ، فهم ثمانية لا يجوز صرفها لغيرهم ، ذكرهم الله في كتابه فقال : } إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { .
اسأل الله U لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، واشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن الأمور الهامة ، التي حث عليها الدين الصدقة يا عباد الله ، وهي نافلة الزكاة ولها شأن عظيم أيضاً ، يقول الله تعالى :
} الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ { الله أكبر ، أيها الأخوة ، ينفقون أموالهم بالليل والنهار ، سراً وعلانية ، فهؤلاء أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، جعلني الله وإياكم منهم .
ويقول سبحانه : } وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ { ويقول النبي e : (( والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها كما يربي أحدهم فلوه ، حتى اللقمة لتأتي يوم القيامة كمثل الجبل العظيم )) . ثم قرأ : } أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {
اسأل الله U أن يجعلني وإياكم من المنفقين في سبيله إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك أن تصلح فساد قلوبنا ، وتغفر ذنوبنا ، وتستر عيوبنا ، وترحم ضعفنا ، وتجبر كسرنا ، وتعافي من ابتليته منا يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، يا رحمن يا رحيم . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك . اللهم وفقنا لهداك ، واجعل عملنا في رضاك ، يا رب العالمين . اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|