وجاءت الفتن
الحمد لله الخبير العليم ، القوي العظيم ، الرحمن الرحيم ، } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذو الطول } لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أرسله } بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { ، صلوات ربي وسلامه عليه ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجه ، وتمسك بسنته ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
أوصيكم ونفسي ، بوصية الله لعباده الأولين والآخرين ، تقوى الله U ، يقول تبارك وتعالى : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
من الأمور الغيبية ، التي أخبر بها النبي r ، كثرة الفتن في آخر الزمان ، وهو أمر يجب على المسلم أن يصدق به ، أولا : لأنه من قول النبي r ، الذي لا ينطق عن الهوى ، كما قال تبارك وتعالى : } وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى { وثانيا : أن الله U امتدح وأثنى على الذين يؤمنون بالغيب فقال تبارك وتعالى : } الم ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ { .
فمن الغيبيات التي أخبر بها النبي r كثرة الفتن في آخر الزمان ، والأدلة على ذلك كثيرة ، منها قول النبي r في الحديث الذي رواه الإمام مسلم ، عن عبدالله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال كنا مع رسول الله r في سفر ، فنزلنا منزلا ، فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من ينتضل ، ومنا من هو في جشره ـ يعني تفرقوا في ذلك المنزل ، الذي يصلح خباءه ، والذي يسابق بالرمي بالنبل ، والذي في جشره أي دوابه ـ يقول عبدالله : إذ نادى منادي رسول الله r : الصلاة جامعة ، فاجتمعنا إلى رسول الله r فقال : (( إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعل عافيتُها في أولها ، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها ، وتجيء فتن يرقق بعضها بعضا ، وتجي الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه ، هذه ، فمن أحب أن يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة ، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه )) .
فالفتن ـ أيها الأخوة ـ تكثر في آخر الزمان ، ولها تأثير بالغ في حياة الناس ، ومصداق ذلك قول النبي r في الحديث الصحيح : (( بادروا بالأعمال الصالحة ، فستكون فتن كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا )) والحديث رواه الإمام مسلم .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن النبي r خشي على أمته من هذه الفتن ، ورسم لها المنهج الواضح ، وحدد لها المسلك الآمن ، للسلامة والنجاة وعدم التورط بما يترتب على تلك الفتن من مآسي ومصائب ، ومن شرور وأخطار وأضرار ، وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة ، فقد قص على أصحابه ما سيكون من أحداث الدنيا وفتنتها حتى قيام الساعة ، يقول عمرو بن أخطب : صلى بنا رسول الله r الفجر وصعد المنبر ، فخطبنا حتى حضرت الظهر ، فنزل فصلى ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس ، فأخبر بما كان وما هو كائن ، فأعلمنا أحفظنا .
أيها الأخوة :
وحذيفة t قد يكون من الذين حضروا هذه الخطبة الشريفة ، ولهذا جاء عنه قوله : لقد خطبنا رسول الله r خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت ، فأعرف ما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه .
أيها الأخوة المؤمنون :
فالنبي r ، حذر أصحابه ومن يأتي من بعدهم من أمته ، ببيانه لخطر الفتن التي تتوالى وتكثر وتظهر في آخر الزمان ، والعاقل يرجع إلى ما قاله نبيه r ، فلا يكون قائده هواه أو شهوته ، وما تمليه عليه عاطفته ، الغير منضبطة بضوابط الشرع .
تأملوا ـ أيها الأخوة ـ حذيفة t يقول : إن الناس كانوا يسألون رسول الله r عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر . فأنكر ذلك القوم - أي الذين كان حذيفة يحدثهم - فقال لهم : إني سأخبركم بما أنكرتم من ذلك : جاء الإسلام حين جاء فجاء أمر ليس كالجاهلية ، وكنت قد أُعطيت في القرآن فهماً ، فكان رجال يجيئون فيسألون عن الخير ، فكنت أسأل عن الشر ! فقلت : يا رسول الله ، أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر ؟ فقال : نعم . قلت : فما العصمة يا رسول الله ؟ قال : السيف . قال : قلت : وهل بعد هذا السيف بقية ؟ قال : نعم ، تكون إمارة على أقذاء ، وهدنة على دَخَن ، قال : قلت : ثم ماذا ؟ قال : ثم تنشأ دعاة الضلالة ، فإذا كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمْه ، وإلا فمت وأنت عاضّ على جِذل شجرة ، قال : قلت : ثم ماذا ؟ قال : يخرج الدجال بعد ذلك ، معه نهر ونار ، من وقع في ناره وجب أجره ، وحُط وزره ، ومن وقع في نهره وجب وزره ، وحط أجره ، قال : قلت : ثم ماذا ؟ قال : ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة.
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
من الفتن العظيمة التي ينبغي التنبيه عنها ، وخاصة هذه الأيام ، حيث الأحداث التي لا تخفى عليكم ، في مصر وتونس ، وفي ليبيا وغيرها من الدول ، الخروج على الحكام وإسقاط أنظمتهم ، ووالله ـ أيها الأخوة ـ إن المسلم ليتمنى أن يعيش المسلمون بأرغد عيش وبأحسن حال ، ونسأل الله للمسلمين في تونس ومصر وليبيا ، بل وجميع الدول الإسلامية ، التوفيق والسداد ، والهداية والرشاد ، وحقن الدماء وحفظ الأعراض .
ولكننا ونحن نتحدث عن الفتن ، ونعيش هذه الأحداث ، نحذر من دعاة الضلالة ، الذين حذر منهم النبي r في حديث حذيفة ، حيث قال r : (( ثم تنشأ دعاة الضلالة ، فإذا كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمْه ، وإلا فمت وأنت عاضّ على جِذل شجرة ، قال : قلت : ثم ماذا ؟ قال : يخرج الدجال )) فبين r له ولغيره أن هناك دعاة ضلالة ، يستغلون ذلك الوضع ، ويثيرون الناس للخروج على الخليفة ، الذي ابتلى الناس به ، ومن أبرز صفاته أنه يجلد ظهورهم ويأخذ أموالهم ، أي يؤذي أجسادهم وأنفسهم ، ويصادر ثمرة جهدهم وتعبهم ، والنفس والمال من الأشياء التي لها قيمة عند الإنسان ، ولهذا ذكرهما النبي r وهناك أشياء كثيرة قد يفعلها ذلك الخليفة هي دون الأذى بالنفس وأخذ المال ، فقد يفعل أشياء ـ كما يقولون تثير الضغائن ، فقد يرونه أفضل منهم مركبا وملبسا ومسكنا ، وقد يدني من يشاء ويبعد من يشاء ، وقد يسمعهم ما يكرهون ، ويريهم ما يمقتون ، ويحسسهم بما لا يطيقون ، فيأتي هنا دور دعاة الضلالة ، الذين ينفجرون من هذا الوضع فيحاولون إثارة الناس على هذا الخليفة ، لإبعاده والذي لا يتم إلا بعد عناء ومشقة ، وكلفة وتضحية ، قد تصل إلى القتل وسفك الدماء ، فحذر النبي r الصحابي ( حذيفة t ) من الاستجابة لهؤلاء الدعاة الذين من صفتهم أنهم يدعون إلى ضلالة ومن ذلك الخروج على الخليفة ، فأمره بأن يلزم الخليفة ، يلزمه بالوفاء ببيعته له وعدم الخروج عليه ، لا ليكون معه على ظلمه وجوره الذي وصل به إلى جلد ظهور الناس وأخذ أموالهم ، وإن كان ليس هناك خليفة ، فليحذر دعاة الضلالة ومن معهم ، وليبتعد عنهم ، ويعيش لوحده حتى ولو كان بجنب شجرة ، فلا يفارقها إلى أولائك حتى يأتيه أجله ، وهذا معنى قول النبي r : ((وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ شَجَرَةٍ )) .
لقد حذر النبي r حذيفة t من التأثر بدعاة الضلالة ، لا سيما في قضية الخروج على الخليفة لا لسواد عيون الخليفة ، ولا للتمتع بالذل والهوان الناتجان عن معاملته السيئة لمن تحت ولايته ، ولكن لما يترتب على الخروج عليه من أضرار كبيرة ، ومخاطر كثيرة ، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ولم تخرج طائفة على ولاة الأمر إلا وكان ما أفسدوه بالخروج عليه أعظم مما ظنوه من الصلاح ، وقد طبق ذلك ـ رحمه الله ـ حيث سجن وأوذي وهو شيخ الإسلام ، يستطيع بفتوى منه أن يخرج المسيرات ، ويسير المظاهرات ، ولكنه صبر شأنه شأن العلماء الربانيين ، كالإمام أحمد والشافعي وغيرهم من الأئمة - رضوان الله عليهم - وهذا ليس من ضعفهم ولا من عجزهم ولكنه من إيمانهم وفقههم .
فلنحذر دعاة الضلالة ، ولنتق الله في دماء جهلة المسلمين ، الذين يدينون الله بغير ما أمروا به ، ويتقربون إليه بما حذروا منه ، فدم المسلم عزيز ، هو أكرم من أن يراق من أجل طمع دنيوي ، أو شهوة رئاسية ، وليكن هدفنا جنة عرضها السموات والأرض وفي الحديث المتفق عليه يقول النبي r : (( إنها ستكون بعدي أثرة ، وأمور تنكرونها )) قالوا : يا رسول الله ، كيف تأمر من أدرك منا ذلك ؟ قال : (( تؤدون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم )) ، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن وائل بن حجر t قال : سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله r فقال : يا نبي الله ، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ، ويمنعونا حقنا ، فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله ، فقال رسول الله r : (( اسمعوا وأطيعوا ، فإنما عليهم ما حملوا ، وعليكم ما حملتم )) .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يحفظ دماءهم وأعراضهم إنه سميع مجيب . اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير ، اللهم إنا نسألك الإعانة على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، والبعد عن معصيتك ومحبة طاعتك ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين .
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين ، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره يا رب العالمين . } رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ { } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|