خشي الرحمن بالغيب
الحمد لله الذي خضعت الرقاب لسطوته ، واندك الجبل لهيبته ، أوجد الخلق بقدرته ، ودبرهم بحكمته ،أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له :
يا عالم الغيب منا والشهادة يا
رب البرية تركيبا وتصويرا
شهدت أنك فرد واحد صمد
شهادة لم تكن مينا ولا زورا
وجهت وجهي في سري وفي علني
إليك حمدا وتهليلا وتكبيرا
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أوجب طاعته وأمر باتباع سنته ، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد عباد الله :
تقوى الله U هي وصية الله لنا ولمن كان قبلنا : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فلنتق الله عباد الله ، جعلني الله وإياكم من عباد الله المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
من منا من لا يعرف نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ الذي إذا ذكر ، ذكر معه الصبر ، ذكر معه الابتلاء ، ذكر معه الحلم والصفح والعفو ، ذكر معه العفاف ، نعم العفاف ـ أحبتي في الله ـ يقول U عنه : } إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ { المخلصين ـ أيها الأخوة ـ غير المخلصين ، هؤلاء الذين ليس للشيطان سبيل عليهم ، ولا قدرة على إضلالهم ، كما قال تبارك وتعالى : } قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ { المخلص ، الذي يخلص نفسه لعبادة الله ، والمخلص أعظم مكانة ، لأنه من أخلصه الله لعبادته وطاعته ، فهؤلاء ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ هم الذين ليس للشيطان طريق إلى قلوبهم ، ولا يستطيع وسيلة للوصول إلى أعمالهم ، ونبي الله يوسف من هذا النوع ، بشهادة الله U : } إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ { .
شاب في عز شبابه ، على مستوى من الجمال ، لما مر من أمام النساء كما قال تعالى : } فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ { المرأة ضعيفة ، إذا رأت الرجل الجميل تذهل ، تنسى السكين التي في يدها ، حتى تقطع لحمها ، وهو نبي ، لم يكن ممثلا ماجنا ، ولا مطربا فاسقا ، ولا مذيعا كما يقولون متشيكا ، ولا سائقا متعطرا ، ولا من هؤلاء الذين يوصلون الطلبات في ساعات متأخرة من الليل .
الشاهد ، فهو شاب بعز مرحلة شبابه ، وبهذا الجمال الأخاذ ، وفي بيت رجل من رجال الدولة ، وزير مصر ، ومع خلوة ، لو كان غير يوسف فيها ، لراح ضحية شهوة ، مع امرأة الوزير ، التي إذا أرادت شيئا فقط تؤشر بيدها ، يقول U : } وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ { هي التي تحاول فيه ، بعد أن غلقت أبواب بيتها ، وليست مجرد محاولة ، بل أعلنتها صريحة : } وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ { ، أي تعال ، } قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ رفض ما طلبته منه ، منصب فهي امرأة الوزير ، متهيئة لشاب يتوقد غريزة ، أبواب مغلقة ، خلوة والمبادرة من طرفها ، ولكن : } مَعَاذَ اللَّهِ { هذه هي الحقيقة الغائبة عن المجرمين عند ارتكاب جرائمهم .
أيها الأخوة المؤمنون :
لقد ذكر الله U هذه القصة في كتابه ، لهذا النبي العظيم ، بل سمى سورة كاملة باسمه ، للاقتداء به في عفته ، والحذر من إغواء الشيطان ، وفي الحديث الصحيح ، من السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله : (( رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجمال ، فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ )) فقد يبتلى المسلم بموقف مثل هذا الموقف ، أو بموقف مشابه له ، فيجب عليه أن يتذكر أن الله U مطلعا عليه ، عالما بما يفعله ، محصيا ما يقوم به ، فيتوقف خوفا وخشية لخالقه سبحانه ، فيكون من الذين قال الله تعالى عنهم : } إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ { .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
} وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ {
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
قد يبتعد الإنسان عن المعاصي والذنوب إذا كان بحضرة أحد من الناس ، ولكنه إذا خلا بنفسه ، وغاب عن رقابة البشر ، أطلق لنفسه العنان ، فاقترف السيئات ، وارتكب المنكرات ، } وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً { ، بل قد يرتكب الإنسان معصية ، ولو كان بحضرته طفل لامتنع من ارتكابها ، فهذا حياؤه وخوفه من هذا الطفل أشد من حيائه وخوفه من الله U ، ولذلك يقول U : } أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ { ويقول أيضا في آية أخرى : } أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ { .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن خشية الرحمن بالغيب ، عبادة عظيمة ، من لم يتعبد الله بها فإنه على خطر عظيم ، ففي الحديث يقول النبي r : (( لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً )) ، قيل : يا رسول الله صفهم لنا ، جلّهم لنا ، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ قال : (( أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها )) .
أيها الأخوة :
ولأهمية هذه العبادة ، كان من دعاء النبي r : ((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة )) .
إذا السر والإعلان في المؤمن استوى
فقد عزّ في الدارين واستوجب الثنا
فإن خالف الإعلان سراً فما له
على سعيه فضل سوى الكدّ والعنا
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحرص على الأمور الموجبة لخشيته سبحانه ، كقوة الإيمان بوعده ووعيده ، والنظر في شدة بطشه وانتقامه وسطوته وأخذه وقهره ، ولنتذكر بأنه شاهد رقيب على قلوب عباده ، مطلع على بواطنهم وظواهرهم ، وسرهم ونجواهم .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة إنه سميع مجيب .
اللهم اجعل سرائرنا خيرا من ظواهرنا ، اللهم إنا نسألك خشيتك بالغيب والشهادة ، والإخلاص بالسر والعلن ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الإعانة على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، والبعد عن معصيتك ومحبة طاعتك ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين .
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين ، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره يا رب العالمين ، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير. } رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ { } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {
عباد الله:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|