أَقْسامُ
الناسِ بِالنِّسْبَةِ لِلهُدَى
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أيُّها
الناسُ:
اتقُوا اللهَ تعالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ القُلُوبَ لَا تَحْيَا إلَّا بالهُدَى
الذي بُعِثَ بِه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّه الغَيْثُ الحَقِيقِيُّ
بالنِّسبةِ لَها، وَلِذلك شَبَّهَهُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بِالْمَطَرِ الذي
يَنْزِلُ عَلَى الأرضِ فَتُنْبِتُ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وَيَسْقِي مِنْه
الناسُ أَنْفُسَهُم وأنعامَهم وَزُرُوعَهُم. لِيُبَيِّنَ لِلناس أنَّهُ كَمَا
أَنَّ الأرضَ لا تَحْيَا إلا بِالْمَطَرِ، فَكذلكَ القُلُوبُ لَا تَحْيَا إلَّا
بِالقرآنِ وَالسَّنَّةِ وَفهْمِهِما وَالعَمَلِ بِهِمَا. بَلْ يَسْتَحِيلُ أَنْ
تَحْيَا القُلُوبُ إلَّا بِذلِك. كَمَا أَنَّ الأرضَ لا تَحْيَا إلَّا بِالْماءِ،
فَلَوْ رَأَيْتُمْ شَخْصًا يَسْقِي زَرْعَه بِغَيْرِ الْماءِ، وَيَرْجُو أَنْ
تُنْبِتَ، مَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ وَهَكَذا مَنْ كانَ يَرْجُو حَياةَ قَلْبِهِ
بِغَيْرِ الهُدَى الذي جَاءَ بِهِ الرسولُ صلى اللهُ عَلَيه وسلم، فَإِنَّه
يَسْتَحِيلُ أَنْ يَحْصُلَ لَه مَا يُرِيدُ. والدليلُ عَلَى ذلك قَوْلُه صلى اللهُ عليه وسلم: (
مَثَلُ مَا بَعَثنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى
والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ،
قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الكَلأَ والعُشبَ الكَثِيرَ، وَكانَتْ مِنْها
أَجَادِبُ أَمْسَكَت الْماءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِها الناسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوا
وَزَرَعُوا، وَأَصابَ مِنْها طائفةً أخْرَى إنَّما هِيَ قِيعانٌ لَا تُمْسِكُ ماءً
ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا
بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ
رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الذي أُرْسِلتُ بِه ). فَفِي هذا الحَدِيثِ دَلِيلٌ
وَاضِحٌ عَلَى تَشْبِيهِ الهُدَى بِالنِّسْبَةِ لِلْقُلُوبِ، بِالْمَطَرِ
بِالنِّسْبَةِ لِلأرضِ. وَفِيهِ أيضًا مَزِيدُ
بَيَانٍ: وَهُوَ أَنَّ الأراضِي تَخْتَلِفُ في اسْتِقْبَالِها
لِلمَطَرِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَرْضٍ تَكُونُ طَيِّبَةً، وَلَيْسَ كُلُّ أَرْضٍ
تَسْتَفِيدُ مِن الْماءِ. فَبَعْضُ الأراضِي تَقْبَلُ الْماءَ وَتُنْبِتُ الزرعَ،
وَبَعْضُها لَا تُنْبِتُ، وَلَكِنَّها تُمْسِكُ الْماءَ للناسِ فَيَسْتَفِيدُونَ
مِنْها، وَذَلِكَ بِسَقْيِ أنْفُسِهِم وَأَنْعامِهِم وَزُرُوعِهِم. وَبَعضُ
الأراضي لَا خَيْرَ فِيها، فَلَا تُمسِكُ الْماءَ وَلَا تُنْبِتُ الزرعَ. وَهَكَذَا الناسُ بِالنسبةِ لِمَا يَصِلُ إلَيْهِم مِن العِلْمِ
والهُدَى، مِنْهُم: مَنْ يَقْبَلُ العِلْمَ وَيَحْفَظُه
وَيَتَفَقَّه فيه، فَيُطَبِّقُهُ، وَيَدْعُو إلَيْهِ، فَيَسْتَفِيدُ بِنَفْسِهِ
وَيُفِيدُ غَيْرَه. وهذِه
حالُ العُلَماءِ العامِلِينَ، وَهُمُ الْمَعْنِيُّون بقوله: ( فكان مِنها نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْماءَ فَأَنْبَتَت
الكَلَأَ والعُشبَ الكَثِيرَ ). فَهُمْ قُدْوَةٌ لِلناسِ بِأفْعالِهم
وَأَقْوالِهِم، وَهُمْ دعاةٌ إلى الكتابِ والسُّنَّةِ، يُعَلِّمُونَ الناسَ
التوحيدَ والعَقِيدَةَ الصحيحةَ، ويُعَلِّمُونَ الناسَ أحكامَ العِباداتِ والْمُعامَلَاتِ،
ويَحْفَظُون لِلأُمَّةِ دِينَها، وَيَرُدُّون عَلَى الْمُخالِفينَ ويَكْشِفُون
الشُّبُهاتِ، وَيُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَلسِنَتِهِم وَأَقْلَامِهِمْ. والقِسْمُ
الثانِي: هُمْ أَقَلُّ اسْتِفَادَةً مِنَ الأوَّلِ، حَيْثُ حَفِظُوا
العِلمَ، واسْتَفادُوا مِنْه فِيمَا يَخُصُّ أَنْفُسَهُم، وَحَفِظُوه لِغَيرِهِم،
فَصَارُوا سَبَبًا لِحِفظِ العِلْمِ لِمَنْ هُمْ أفقهُ مِنْهُم، ( فَرُّبَّ حامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هوَ أفْقَهُ منه )،
وهم الْمَعْنِيُّون بقوله: ( وَكانَت مِنْها أَجادِبُ،
أَمْسَكتِ الْماءَ، فَنَفَعَ اللهُ بها الناسَ فشرِبُوا وسَقَوا وَزَرَعُوا
). وأجادِبُ جَمْعُ جَدْبٍ، وَهِي الأَرْضُ
الصُّلْبَةُ التي لَا يَنْضَبُ مِنْها الْماءُ. والقِسْمُ
الثالِثُ: مَنْ لَمْ يَسْتَفِدْ مِمَّا جاءَ بِهِ الرسولُ صلى اللهُ
عليه وسلم، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، أَوْ يَنْقُلْهُ إلَى الناسِ، فَهُمْ لا خَيْرَ
فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُون وَلَا يُفِيدُونَ، وَهُمْ الْمَعْنِيُّون
بِقَوْلِه: ( وَأَصابَ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى
إِنَّما هِيَ قِيعانٌ، لَا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِت كَلأً ). والقِيعانُ: جَمْعُ
قاعٍ، وَهِيَ: الأرضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمَلْساءُ التي لا تُنْبِتُ. فَالناسُ يَا عِبادَ اللهِ لَيْسُوا سَوَاءً
في اسْتِقْبَالِهِمْ لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا أَنَّ الأراضِي لَيْسَتْ
سَواءً بِالنِّسْبَةِ لِاسْتِقبالِها لِلْغَيْثِ. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد: عِبادَ
اللهِ: إِنَّ هذا الحَدِيثَ العَظِيمَ يَدْعُو إلى مُحاسَبَةِ
النَّفْسِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالاستِفادَةِ مِنْ كِتابِ رَبِّها، وَسُنَّةِ
رسولِه صلى اللهُ عليه وسلم. فَإِنَّ مَنْ لا يَسْتَفِيدُ وَلَا يُفِيدُ فَهُو
عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، لِأَنَّه لَمْ يَنْتَفِعْ بِالهُدَى الذي أُرْسِلَ بِهِ
محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلم. وإذا كانَ هذا هُوَ وَصْفُ مَنْ لَا يَسْتَفِيدُ وَلَا
يُفِيدُ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْسُو قَلْبُهُ عِنْدَ سَمَاعِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ؟
وَكَيْفَ بِمَنْ يَزْدادُ إعْراضُهُ وَرِجْسُهُ والعِياذُ باللهِ. قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ
إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾. وقال تَعالَى: ﴿ وَإِذَا
مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ
إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ
رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وماتوا وهُمْ كافِرون ﴾. وهذا الحديثُ العَظِيمُ يا عِبادَ اللهِ:
يَحُثُّ عَلَى العِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَيَدْعُو إلى حِفْظِ القُرْآنِ والحديثِ،
ويَحُثُّ عَلَى الدعوةِ. ويَدُلُّ عَلَى أَنَّ العِلْمَ يَسْبِقُ الدَّعْوَةَ،
فَلَا يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالدعوةِ قَبْلَ العِلْم، وَيَدُلُّ
عَلَى خُطُورَةِ الإعْراضِ، أَوْ الغَفْلَةِ عَنْ تَعَلُّم العِلْمِ الشَّرْعِيِّ.
اللَّهُمَّ
عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنا، وانْفَعْنا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَفَقِّهْنا فِي
دِينِكَ يا ذا الجَلَالِ والإكْرَامِ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي
هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا،
وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ
زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ
شَرٍّ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ،
وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ
أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ،
وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ،
اللهُمَّ ارفع البلاءَ عن الْمستضعفينَ من الْمؤمنين في كلِّ مكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ
دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ
وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم
بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ الصَّالحةَ
النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ
وَالمُسْلِمَاتِ، وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم
وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾. وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|