من فقه الوقف
الحمد لله العظيم القهار ، القوي الجبار ، الغني الذي لا ينقص ملكه النفقات ، الجواد الذي أناخت ببابه ركاب ذوي الحجات ، العليم الذي يعلم ما في الأرض وما في السموات ، } وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ{ سبحانه من إله } يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ { .
جوادٌ كريم ٌ مستقيمٌ على البقا
وَجُودَاهُ لا تبلى ولا تتبدلُ
عفوٌ يحبُّ العفوَ من كل خلقه
عن الجودِ والإحسانِ لا يتحولُ
له ترفع الأعمال في كل لحظة
بأيدي كرامٍ كاتبين وتحملُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل ، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المصطفى المختار ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا ما تعاقب الليل والنهار .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U بفعل أوامره ، وبالبعد عما نهاكم عنه ، فهو القائل سبحانه : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة :
سبق الحديث عن أهمية الوقف وفضله ، وأن له في الإسلام شأن عظيم ، ومكانة سامية ، ,ولا أدل على ذلك ، من اعتناء الدين به وبيان أحكامه ؛ ولكن ـ وللأسف ـ يوجد من المسلمين اليوم ، من لايدرك أهمية الوقف ، ولا يستشعر عظم شأنه ، ولذلك ـ أيها الأخوة ـ وجد من المسلمين ، من يجمع الأموال الطائلة ، ويفني حياته باللهث خلف المال ، إلى درجة العبودية له ، ولكنه يموت ويترك ما جمع لورثته ، الذي قد يكون من بينهم من يفرح بموته ، ويسر بوفاته وتركه لأمواله ، ليتمتع بهذه الأموال ، التي صار له غنمها وعلى والده غرمها ، ولن تزولا قدما عبد يوم القيامة ، حتى يسأل عن ماله ، من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، كما قال النبي r .
نعم ـ أيها الأخوة ـ يجهل بعض المسلمين منفعة الوقف ، ولم يبلغ بعضهم درجة من اليقين ، على ما يترتب علي الوقف من الأجر العظيم ، ولهذا ـ أيها الأخوة ـ قل الواقفون ، وندرت أوقاف المسلمين ، والوقف من أعظم القرب ، التي يتقرب بها إلى الله U ، يقول النبي e ـ كما ذكرنا في الجمعة الماضية ـ في الحديث الذي رواه مسلم : (( إذا مات ابنُ آدم ، انقطع عملُهُ إلا من ثلاث : صدقةٍ جارية ، أو علمٍ ينتفع به ، أو ولدٍ صالح يدعو له )) وفي حديث آخر يقول e : (( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علماً نشره ، أو ولداً صالحاً تركه ، أو مصحفا ورثَّه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد مماته )) .
فللوقف أهمية عظمى في حياة المسلم ، وهو من الأشياء التي ينبغي أن لايغفل عنها من أراد الدرجات العلى في الآخرة ، فدعونا ـ أيها الأخوة ـ نبين شيئا من أحكام الوقف . لأن للوقف فقه في الإسلام ، منه ما يشترط للواقف ، فلابد أن يكون الواقف ؛ بالغا عاقلا حرا رشيدا ، وينعقد الوقف إما بالقول أو بالفعل ؛ فالقول ؛ كأن يقول الواقف صراحة : وقفت أو حبست أو سبلت ، أو يقول كناية وبنيته الوقف : تصدقت ، أو حرمت ، أو أبدت .
وأما الوقف بالفعل ؛ كأن يجعل داره مسجدا ، ويأذن للناس للصلاة فيه ، أو كأن يجعل من أرضه مقبرة ويأذن للناس أن يدفنوا موتاهم فيها .
وينقسم ـ أيها الأخوة ـ الوقف إلى قسمين :
الأول : الوقف الأهلي ، أو مايُسَمَّى بالوقف الذُّرِّي ، وهو ما كان على أولاده , وأحفاده , وأقاربه ، ويقوم على أساس حبس العين والتصدق بريعها على الواقف نفسه وذريته من بعده أو غيرهم , طبقاً للشروط التي يحددها الواقف.
والقسم الثاني: الوقف الخيري ، وهو ما كان في وجوه الخير على سبيل العموم ، وعدم حصره على أولاده وأهله .
وهنا مسائل تتعلق بالوقف لابد من معرفتها ـ أيها الأخوة :
الأولى: أن الوقف من العقود اللازمة فلا يجوز فسخه والتراجع عنه ، إلا إذا أوقف على بعض أولاده دون بعض , أو أوقف ماله على أمر محرم.
والمسألة الثانية: إذا أوقف الرجل ماله وعليه ديون كثيرة وليس عنده بعد الوقف ما يقضي ديونه ، فإنه يجب عليه أن يفسخ الوقف , ويقضي دينه , لأن الوقف مستحب وقضاء الدين واجب.
والمسألة الثالثة : إذا علَّقَ الواقفُ الوقفَ على موته ، فقال : هذا البيت أو هذا الدكان أو هذه المزرعة وقفٌ بعد موتي , فإنه يكون في حكم الوصية , فَيُنْظَر: إذا كان هذا المال أو الشيء الموقوف يساوي الثلث فأقل , فإنه صحيح , ولابد من إنفاذه. وإذا كان يزيد على الثلث فإنه لا يُنَفَّذُ منه إلا الثلث , وأما ما زاد على الثلث فإنه يُرَدُّ إلى التركة لأنه من حق الورثة ، وهنا إشارة ـ أيها الأخوة ـ وخاصة لمن يحرم نفسه الوقف ، بأسباب بخله ، أقول : أخي ، إن كنت تبخل في حياتك عن نفع نفسك ، فلا تكن بخيلا حتى بعد موتك ، تمتع بمالك في حياتك ، وانفع نفسك بعد وفاتك ، أجعل شيئا من مالك لك بعد انتقالك من هذه الدنيا ، قل هذا لي بعد موتي ، فلن يتصرف به إلا بعد موتك ، فلا تبخل على نفسك .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : } هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ{
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن المسائل التي تتعلق بالوقف ، وهي المسألة الرابعة :
يجب العمل بشرط الواقف إذا كان لا يُخالف الشرع ، ولكن اختلف أهل العلم: هل يجوز العمل بما هو أفضل ؟ كمن كان بيده وقف ، وقد شَرَط الواقف صرفَ الوقف في عشاء وأضحية , كما هو حال كثير من الناس اليوم , ثم رأى ناظِرُ الوقف أن يصرِفَه فيما هو أفضل , كالنفقة على الأرامل والأيتام , وبذل المال في الدعوة إلى الله , وتحجيج من لم يحج ممن لا يجد نفقة الحج , أو المشاركة في علاج المرضى من المسلمين , أو بناء المساجد , أو حِلَق التحفيظ , أو تعبيد الطرق , أو قضاء الدين عن المدينين , أو المساعدة على الزواج , فإن له ذلك لأنه صرفه إلى ما هو أفضل وأنفع . إلا إذا كان الوقف على مُعَيَّن , كأن يقول وقفت على فلان وفلان.
المسألة الخامسة: لا يجوز بيع الوقف ولا المناقلة به إلا في حالتين:
الأولى : أن تتعطل منافعه , كدار انهدمت ولم تمكن عمارتها من ريع الوقف , أو أرض زراعية خربت وعادت مَوَاتا, فيُبَاع الوقف الذي هذه حاله ويُصْرَف ثمنه في مثله . فإن تعذَّر مثله كأن تكون القيمة لا تفي بشراء مثله فإنه في هذه الحالة يشتري ما يحصل به المقصود, لقوله تعالى : } فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ { .
الحالة الثانية: جواز بيع الوقف للمصلحة، كأن يكون الموقوف مزرعة , أو دُكاناً ، ولم تتعطل منفعتهما ولكن رأى ناظر الوقف أن المصلحة بيع الوقف وإبداله بما هو أفضل وأنفع فإن له ذلك , ولكن لابد من الرجوع إلى المحكمة حتى لا يَتَلاعب الناس بالأوقاف.
فاتقوا الله يا عباد الله ، واحرصوا على نفع أنفسكم، وتفقهوا في دين ربكم (( فمن يرد به الله خيرا يفقهه في الدين ))
ألا وصلوا على البشير النذير ، والسراج المنير ، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير ، فقال جل من قائل عليما : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا { وفي الحديث الصحيح ، قال e : (( من صلى علي صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشرا )) . فاللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وارض اللهم عن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم واحمي حوزة الدين ، واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين . } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|