لِلْكِرَاْمِ بَيَاْنُ مَاْ لِلْأَرْحَاْمِ
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ ، يَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ : ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ- بِأَنَّ لِصِلَةِ الرَّحِمِ عِنْدَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - شَأْنًا عَظِيمًا ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ » .
وَالْمَقْصُودُ بِالرَّحِمِ : أَرْحَامُ الإِنْسَانِ مِنْ أَقَارِبِهِ ، كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ ، وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ، وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ، وَأَوْلَادِ الْأَخِ ، وَأَوْلَادِ الْأُخْتِ ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ ، الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ . فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَرْحَامُ ، صِلَتُهُمْ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ الْمُنْجِيَاتِ ، وَقَطِيعَتُهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ الْمُهْلِكَاتِ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاصِفًا لِلْمُؤْمِنِينَ ، أَهْلِ الْجَنَّةِ :﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾ وَمِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ؛ صِلَةُ الرَّحِمِ . قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ صِفَاتِهِمْ وَالَّتِي مِنْهَا صِلَةُ الرَّحِمِ ، قَالَ : ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ .
وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوصَلَ ، وَمِنْهُ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ ، قَالَ :﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾، وَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ أَيْ : طَرَدَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ . فَأَصَمَّهُمْ عَنِ الْحَقِّ ، وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ؛ أَيْ : قُلُوبَهُمْ عَنِ الْخَيْرِ ـ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ .
فَلِصِلَةِ الرَّحِمِ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ شَأْنٌ عَظِيمٌ ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ، وَلِقَطِيعَتِهَا خَطَرٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ ، يَقُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ : « إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَامَتِ الرَّحِمُ ، فَقَالَ : مَهْ ؟ قَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ ، قَالَ : نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى ، يَا رَبِّ ! قَالَ : فَذَلِكَ لَكِ » .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ صِلَةِ الرَّحِمِ وَخَطَرِ قَطِيعَتِهَا : مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِهارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ : « إِنَّ آلَ بَنِي فُلَانٍ لَيسُوا بِأَوْلِيائِي، إِنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا » ، أَيْ ؛ سَأَصِلُهَاْ بِصِلَتِهَاْ ، يَقُولُ الشَّيْخُ ابْنُ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ وَأَسْكَنَهُ وَوَالِدِينَا فَسِيحَ جَنَّاتِهِ - : فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ حَتَّى مَعَ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا حَرْبًا لَنَا، بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هُدْنَةٌ وَأَمَانٌ، فَإِنَّهُمْ يُوصَلُونَ، كَمَا كَانَ عُمَرُ يَصِلُ أَقَارِبَهُ فِي مَكَّةَ فِي وَقْتِ الْهُدْنَةِ، وَكَمَا وَصَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أُمَّهَا وَهِيَ كَافِرَةٌ فِي حَالِ الْهُدْنَةِ .
فَأَرْحَامُكَ - أَخِي الْمُسْلِمُ - تَجِبُ صِلَتُهُمْ وَتَحْرُمُ قَطِيعَتُهُمْ مَهْمَا كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَمَهْمَا كَانَتْ أَوْضَاعُهُمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَفِيدَ مِنْ ذَلِكَ أَنْتَ لَا غَيْرُكَ ، يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ » ، سَعَةُ الرِّزْقِ وَطُولُ الْعُمْرِ ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَارِ صِلَةِ الرَّحِمِ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَاحْذَرُوا الْقَطِيعَةَ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، قَالَ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ : « تَعْبُدُ اللَّهَ ولَا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وتُؤْتي الزَّكَاةَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ » ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ ، يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ » يَعْنِي : قَاطِعَ رَحِمٍ.
وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصِّلَةِ وَوُجُوبِهَا ، وَخَطَرِ الْقَطِيعَةِ وَسُوءِ نَتَائِجِهَا ، وَهُنَاكَ بَعْضُ الْأَسْبَابِ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ تُؤَدِّي إِلَى الْقَطِيعَةِ وَعَدَمِ الصِّلَةِ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْهَا ، بَلْ وَيَجِبُ التَّعَاوُنُ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهَا كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ ، وَمِنْهَا :
الْجَهْلُ بِعَوَاقِبِ الْقَطِيعَةِ ، وَفَضْلِ الصِّلَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ ، وَضَعْفِ التَّقْوَى ، وَكَذَلِكَ الْكِبْرُ ، فَبَعْضُ النَّاسِ إِذَا نَالَ مَنْصِبًا أَوْ حَصَلَ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ تَكَبَّرَ عَلَى أَقَارِبِهِ فَامْتَنَعَ عَنْ زِيَارَتِهِمْ وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ ، وَأَنَّهُ الْأَوْلَى بِالزِّيَارَةِ ، وَهَذَا مِنَ الْكِبْرِ نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ .
وَمِنْهَا ؛ الِانْقِطَاعُ الطَّوِيلُ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْقَطِعُ عَنْ أَقَارِبِهِ فَتْرَةً طَوِيلَةً ، فَيُصِيبُهُ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ وَحْشَةٌ ، فَيَبْدَأُ بِالتَّسْوِيفِ وَهَكَذَا.
وَمِنْهَا : الْعِتَابُ الشَّدِيدُ ، فَبَعْضُ النَّاسِ إِذَا زَارَهُ أَحَدُ أَقَارِبِهِ بَعْدَ طُولِ انْقِطَاعِ ، أَمْطَرَ عَلَيْهِ وَابِلًا مِنَ اللَّوْمِ وَالْعِتَابِ ، لِمَاذَا أَطَالَ الْغِيَابَ ؟ وَلِمَاذَا تَأَخَّرَ فِي الزِّيَارَةِ ؟ وَذَلِكَ يُؤَدِّي لِلْقَطِيعَةِ لِلسَّلَامَةِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَالتَّقْرِيعِ .
وَمِنَ الْأَسْبَابِ أَيْضًا : التَّكَلُّفُ الزَّائِدُ ، فَهُنَاكَ مَنْ إِذَا زَارَهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ تَكَلَّفَ لَهُ أَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ ، وَخَسِرَ الْأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ ، وَقَدْ يَكُونُ قَلِيلَ ذَاتِ الْيَدِ ، فَلِذَلِكَ تَجِدُ أَقَارِبَهُ يُقَصِّرُونَ عَنِ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ خَوْفًا مِنْ إِيقَاعِهِ فِي الْحَرَجِ .
وَمِنَ الْأَسْبَابِ أَيْضًا : قِلَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالْأَقَارِبِعِنْدَ زِيَارَتِهِمْ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا زَارَهُ أَقَارِبُهُ لَمْ يُبْدِ لَهُمُ الِاهْتِمَامَ ، وَيَعْبَسُ فِي وُجُوهِهِمْ ، وَلَا يُظْهِرُ الْفَرَحَ لِزِيَارَتِهِمْ ، وَيَسْتَقْبِلُهُمْ بِكُلِّ بُرُودٍ ، وَلِذَلِكَ يَرْغَبُونَ عَنْ زِيَارَتِهِ .
وَمِنَ الْأَسْبَابِ أَيْضًا الَّتِي تُسَبِّبُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ : تَأْخِيرُ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ مِيرَاثٌ لَمْ يُقْسَمْ ، إِمَّا تَكَاسُلًا مِنْهُمْ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَكُلَّمَا تَأَخَّرَ قَسْمُ الْمِيرَاثِ ، وَتَقَادَمَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ ، كُلَّمَا شَاعَتِ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ ، فَهَذَا يُرِيدُ حَقَّهُ لِيَتَوَسَّعَ بِهِ ، وَهَذَا يَمُوتُ وَيُتْعِبُ أَوْلَادَهُ فِي حَصْرِ الْوَرَثَةِ ، وَجَمْعِ الْوَكَالَاتِ ، وَهَذَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِهَذا ، وَتَتَأَزَّمُ الْأَوْضَاعُ ، وَتَكْثُرُ الْمَشَاكِلُ ، فَتَحُلُّ الْفُرْقَةُ ، وَتَسُودُ الْقَطِيعَةُ .
وَمِنْ أَهَمِّ الْأَسْبَابِ : الْوِشَايَةُ وَالْإِصْغَاءُ إِلَيْهَا ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَرِفُ إِفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَيُسِيءُ بَيْنَ الْأَرْحَامِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ ، وَتَكْدِيرِ صَفْوِهِمْ ، وَهَذا لَا شَكَّ أَنَّهُ جُرْمٌ كَبِيرٌ ، وَالَّذِي أَعْظَمُ جُرْمًا مِنَ الْوَاشِي مَنْ يُصْغِي إِلَيْهِ.
وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ نَصِيحَةٌ لِوَجْهِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، اسْمَعُوهَا مِنْ أَخِيكُمْ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْقَطِيعَةِ وَيَحْظَى بِالصِّلَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْفَحَ عَنْ أَقَارِبِهِ ، وَيَنْسَى مَعَايِبَهُمْ ، وَيَقْبَلَ أَعْذَارَهُمْ ، وَأَنْ يَجْعَلَ صِلَتَهُمْ قُرْبَةً يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ، ولَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وصَلَهَا ».
أَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِنَ الَّذِينَ يَصِلُونَ أَرْحَامَهُمْ ، وَمِنَ الَّذِينَ يَصِلُهُمُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِصِلَتِهِ .
أَلَا وَصَلُّوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ عَلِيمًا : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾.
فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
اللَّهُمَّ انْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّينِ ، وَاجْعَلِ اللَّهُمَّ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا ، وَاسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا خِيَارَنَا ، وَاجْعَلْ وِلَايَتَنَا فِي عَهْدِ مَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتَّبَعَ رِضَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا بِسُوءٍ اللَّهُمْ اشْغَلْهُ فِي نَفْسِهِ ، وَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ سَبَبًا فِي تَدْمِيرِهِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ سَتْرَ عَوْرَاتِنَا ، وَمَغْفِرَةَ زَلَّاتِنَا ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
عِبَادَ اللهِ :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .