اَلْمَطْلُوْبُ لِمَرْضَىْ اَلْقُلُوْبِ
الْحَمْدُ للهِ ﴿الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ ، أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ﴿يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابًا ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ تَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ . أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - بِأَنَّهُ كَمَا لِلْقَلْبِ أَمْرَاضٌ حِسِّيَّةٌ كَانْسِدَادِ الشَّرَايِينِ وَالصِّمَمَاتِ وَالْجَلَطَاتِ وَضَعْفِ الْعَضَلَاتِ ، لَهُ أَمْرَاضٌ أُخْرَى أَخْطَرُ وَأَضَرُّ مِنْهَا ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَرَضُ الْحِسِّيُّ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ ، يَقُوْلُ ـ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيْ اَلْحَدِيْثِ اَلْصَّحِيْحِ : « مَاْ يُصِيْبُ الَمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلَاْ وَصَبٍ، وَلَاْ هَمٍّ وَلَاْ حُزْنٍ وَلَاْ أَذًى وَلَاْ غَمٍّ، حَتَّىْ اَلْشَّوْكَةِ يُشَاْكُهَاْ، إِلَّاْ كَفَّرَ اَللَّهُ بِهَاْ مِنْ خَطَايَاهُ » ، وَلَكِنَّ الْمَرَضَ الْآخَرَ - وَالْعِيَاذُ بِاللهِ - إِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ صَاحِبُهُ فِي حَيَاتِهِ ، فَإِنَّهُ سَوْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِشَقَائِهِ فِي حَيَاتِهِ وَلِعَذَابِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ ، هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ ، مَرْضَى الشَّكِّ وَالشُّبُهَاتِ وَالنِّفَاقِ ، يَقُولُ ابْنُ سِعْدِيٍّ فِي تَفْسِيرِهِ : الْقَلْبُ يُعْرَضُ لَهُ مَرَضَانِ يُخْرِجَانِهِ عَنْ صِحَّتِهِ وَاعْتِدَالِهِ : مَرَضُ الشُّبُهَاتِ الْبَاطِلَةِ ، وَمَرَضُ الشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ، فَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالشُّكُوكُ وَالْبِدَعُ ، كُلُّهَا مِنْ مَرَضِ الشُّبُهَاتِ . وَالزِّنَا وَمَحَبَّةُ الْفَوَاحِشِ وَالْمَعَاصِي وَفِعْلُهَا ، مِنْ مَرَضِ الشَّهَوَاتِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ وَهِيَ شَهْوَةُ الزِّنَا، وَالْمُعَافَى مَنْ عُوفِيَ مِنْ هَذَيْنِ الْمَرَضَيْنِ ، فَحَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ وَالْإِيمَانُ ، وَالصَّبْرُ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ ، فَرَفَلَ فِي أَثْوَابِ الْعَافِيَةِ. انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِهِ رَحِمَهُ اللهُ . فَالْقَلْبُ يَمْرَضُ أَمْرَاضًا خَطِيرَةً - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - وَلِذَلِكَ عَلَامَاتٌ وَدَلَالَاتٌ ، مِنْهَا وَمِنْ أَخْطَرِهَا ؛ عِبَادَةُ الْهَوَى ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ ، وَيَقُولُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ قَائِلٍ : ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ ، فَإِذَا رَأَيْتَ - أَخِي الْمُسْلِمُ - نَفْسَكَ تَعْمَلُ مَا تَهْوَاهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُرْضِي اللهَ ، وَتَتْرُكُ مَا لَا تَهْوَاهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ ؛ فَأَنْتَ مَرِيضُ قَلْبٍ أَدْرِكْ نَفْسَكَ وَتَدَارَكْ مَرَضَكَ ، قَبْلَ أَنْ يُودِيَ بِحَيَاتِكَ وَيَتَسَبَّبَ فِي تَعَاسَتِكَ وَشَقَائِكَ . وَمِنْ عَلَامَاتِ مَرَضِ الْقَلْبِ ؛ حُبُّ الْمَعَاصِي وَالتَّلَذُّذُ بِفِعْلِهَا ، وَعَدَمُ النَّدَمِ عَلَى ارْتِكَابِهَا ، وَتَسْوِيفُ التَّوْبَةِ مِنْهَا ، فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يَعْصِي اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَا يَرَى بَأْسًا فِي ذَلِكَ ، كَالَّذِينَ لَا يُبَالُونَ فِي الِاخْتِلَاطِ وَالتَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ ، وَيَقْرَبُوْنَ الزِّنَا بِشَتَّى الطُّرُقِ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْأُمُورِ ، دُونَ خَوْفٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَا حَيَاءٍ مِنَ النَّاسِ . وَكَالَّذِينَ يَتَفَاخَرُونَ بِمَا لَا يُحِبُّهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيُغْضِبُهُ ؛ مِنْ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ الْمُبَذِّرِينَ وَالْمُسْرِفِينَ ، وَالْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ لِنِعَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ . وَكَالَّذِينَ يُوَثِّقُونَ فَسَادَ عَقَائِدِهِمْ ، وَانْحِرَافَ مَنَاهِجِهِمْ ، وَسُوءَ مَقَاصِدِهِمْ ، وَطُغْيَانَ مَا فَسَدَ مِنْ مَبَادِئِهِمْ ، كَالطَّاعِنِينَ فِي الْأَحْسَابِ ، وَالْمُفَاخِرِينَ بِالْأَنْسَابِ ، وَالْبَاطِرِينَ لِلْحَقِّ وَالْغَامِطِينَ لِلنَّاسِ . إِذَا رَأَيْتَ - أَخِي الْمُسْلِمُ - أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، فَاعْلمْ أَنَّهُ مَرِيضُ قَلْبٍ ، فَتِلْكَ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِهِ ، وَصِفَةٌ مِنْ أَبْرَزِ صِفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ ، وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْقَوِيمَةِ ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى : ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ . بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ : « كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ » ، قَالُوا : صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ ؟ ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ ، لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ » . فَاحْرِصُوا يَا عِبَادَ اللهِ عَلَى سَلَامَةِ قُلُوبِكُمْ مِنَ الْأَمْرَاضِ ، وَخَاصَّةً الْبَغْيَ وَالْغِلَّ وَالْحَسَدَ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، يَقُولُ - صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - : « إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ » . أَسْأَلُ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ، أَنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِهِ ، وَيَرْزُقَنَا مَحَبَّتَهُ وَطَاعَتَهُ ، وَيَمُنَّ عَلَيْنَا بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَرَحْمَتِهِ . اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلَا تُعِنْ عَلَيْنَا ، وَانْصُرْنَا وَلَا تَنْصُرْ عَلَيْنَا ، وَامْكُرْ لَنَا وَلَا تَمْكُرْ عَلَيْنَا ، وَاهْدِنَا وَيَسِّرِ الْهُدَى لَنَا ، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَكَ شَاكِرِينَ ذَاكِرِينَ رَاهِبِينَ مُنِيبِينَ ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنَا ، وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا ، وَأَجِبْ دَعَوْاتِنَا ، وَثَبِّتَ حُجَّتَنَا ، وَسَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا ، وَاهْدِ قُلُوبَنَا ، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صُدُورِنَا .اللَّهُمَّ نَقِّ قُلُوبَنَا مِنَ الْخَطَايَا ، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ، وَبَاعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَطَايَانا كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ .﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾. عِبَادَ اللهِ : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا: http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|