الدُّنْيا مَتاعُ الغُرُورِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى،
واعْلَمُوا أَنَّ الدنيا دَارُ مَمَرٍّ، وَلَيْسَتْ دارَ مَقَرٍّ. فَلَا يَلِيقُ
بِمُؤْمِنٍ عاقِلٍ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْها. والدُّنْيا: حَياتُنَا التي نَعِيشُ
فِيها، سُمِّيَتْ بِذلِكَ لِسَبَبَيْنِ: السَّبَبُ الأَوَّلُ: أَنَّها أَدْنَى مِن
الآخِرَة، لِأَنَّها قَبْلَها كَمَا قالَ تَعالَى: ( وَلَلْآخِرَةُ
خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ). والثاني: أَنَّها دَنِيئَةٌ لَيْسَتْ
بِشَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ لِلآخِرَةِ، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( لَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ في الجنةِ خَيْرٌ مِن الدنيا
وَمَا فِيهَا ). وَمَوْضِعُ السَّوْطِ: هُوَ مَكانُ العَصَا القَصِيرَةِ
الصَّغِيرَةِ في الجنةِ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيا وَمَا فِيهَا مِنْ أَوَّلِها إلى
آخِرِها. وَلِذلِكَ قال تَعالَى: ( اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ ). فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْصافٍ
كُلُّها لَيْسَتْ بِشَيْءٍ: لَعِبٌ، وَلَهْوٌ، وَزِينَةٌ، وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ،
وَتَكاثُرٌ فِي الأمْوالِ والأولادِ. وَمَثَلُ هذِهِ الأشياءِ الخَمْسَةِ: ( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً )، أَيْ يَزُولُ
وَيَنْتَهِي، هَذِهِ هِيَ الحَيَاةُ الدنيا، واعْتَبِرْ ذَلِكَ فِي واقِعِكَ، كَمْ
مِنْ أُناسٍ عِشْتَ مَعَهُمْ، وَعاشُوا فِي هذِهِ الدنيا عِيشَةً راضِيَةً، وَفِي
رَفَاهِيَةٍ وَأُنْسٍ وَأَوْلادٍ وَزَوْجاتٍ وَسَيَّاراتٍ، ثُمَّ انْتَقَلُوا
عَنْها، كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا بِالأَمْسِ يَعِيشُونَ فِيها آمِنِينَ
مُطْمَئِنِّينَ، وَكَأَنَّهْمْ لًمْ يَسْتَمْتِعُوا فيها لَحْظَةً. هَذِهِ هِيَ الدُّنْيا،
وإنَّمَا ضَرَبَ اللهُ هذا الْمَثَلَ لِئَلَّا نَغْتَرَّ بِهَا.
ثُمَّ
قال اللهُ تَعالَى: ( وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ). فَأَيُّ الدَّارَيْنِ
تُريدُ؟ أَتُريدُ الدَّارَ التي فِيها العذابُ الشَّدِيدُ لِمَنْ آثَرَ الدنيا
عَلَى الآخِرَةِ؟ أمْ تُرِيدُ الْمَغْفِرَةَ والرِّضْوانَ لِمَنْ آثَرَ الآخِرَةَ
عَلَى الدنيا؟ إِنَّ العاقِلَ إذا قَرَأَ القُرْآنَ وَتَبَصَّرَ، عَرَفَ هَوانَ
الدنيا، وَأَنَّها لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَأَنَّها مَزْرَعَةٌ لِلآخِرَةِ، فَانْظُرْ
ماذا زَرَعْتَ فِيها لِآخِرَتِكَ؟ فَإِنْ كُنْتَ زَرَعْتَ خَيْرًا، فَأَبْشِرْ
بِالحَصادِ الذي يُرْضِيكَ، وَإِنْ كان الأَمْرُ عَلَى خِلافِ ذلكَ، فَقَدْ
خَسِرْتَ الدنيا والآخرةَ.
فَلَوْ كانَت الدنيا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ
جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى فِيهَا كافِرًا شَرْبَةَ ماءٍ، وَلَوْ كانَتْ الدنيا
تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا كانَ الفُقَراءُ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ
قَبْلَ الأَغْنِياءِ. وَلَوْ كانَتْ الدنيا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ
مَا جَاعَ فِيها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم. وَلَوْ كانَتْ الدنيا تَزِنُ
عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، ما ضَرَبَ اللهُ الأمْثالَ التي تُزَهِّدُنَا
فِيها وَتُحَذِرُ مِن الرُّكُونِ إِلَيْها كَمَا سَمِعْتُمْ في الآَيَةِ الكَرِيمَةِ.
وَلَقَدْ
ضَرَبَ النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْثالًا كَثِيرَةً تُدُلُّ عَلى
شِدَّةِ هَوانِها: وَمِنْها أَنَّه: ( مَرَّ
بِالسُّوقِ، فَمُرَّ بِجَدْيٍ أسَكَّ مَيِّتٍ - والجَدْيُ مِنْ صِغارِ
المَعْزِ - فَتَنَاوَلَهُ، ثُمَّ قالَ: وَاللهِ
لَلدُّنْيا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هذا عَلَيْكُمْ ).
وَلَوْ كانَتْ
الدُّنْيا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، لَذَهَبَتْ مَعَ صاحِبِها
بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّه تَعِبَ فِي جَمْعِها، وَشَقِيَ فِي تَحْصِيلِها،
وَلَكِنَّه يَذْهَبُ عَنْها وَيَتْرُكُها كُلَّها، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلَاثةٌ:
أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ: فَيَرْجِعُ اثْنانِ، وَيَبْقَي واحِدٌ، يَرْجِعُ
أَهْلُهُ ومَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ). وَلَوْ كانت الدنيا تَزِنُ عِنْدَ
اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ مَا خافَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وَسَلَّم أَنّْ تُبسَطَ
عَلَيْنَا، حَيْثُ قال: ( مَا الفَقْرَ أَخْشَى
عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدنيا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ
عَلَى مَنْ كان قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوها كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ
كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا
إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عِبادَ الله: إنَّ سَبَبَ خَوْفِ النبيِّ
صلى اللهُ عَليهِ وسلمَ عَلى أُمَّتِهِ مِنْ الانْفِتاحِ وَبَسْطِ الدُّنْيا، هُوَ
التَّنافُسُ مِنْ أَجْلِها، والانْشِغالُ بِها وَنِسْيانُ الآَخِرةِ. لِأَنَّ
الانْشِغالَ بِهَا سَبَبٌ لِفَسادِ رابِطَةِ الأُخُوَّةِ الإيمانِيَّةِ، وَسَبَبٌ
لِلْحَسَدِ والبَغْيِ، وَسَبَبٌ لِتَضْيِيعِ أوامِرِ اللهِ، وَسَبَبٌ لِلْإِسْرافِ
والطُّغْيانِ، وَسَبَبٌ لِتَسَلُّطِ الأَعْداءِ.
وَأَثَرُها
السَّيِّئُ ظاهِرٌ حَتَّى عَلَى الصِّغارِ الأَبْرِياءِ، خُصُوصًا مَعَ
الِانْفِتاحِ الْمُبْهِرِ الذي يَعِيشُهُ الناسُ اليَوْمَ، حَيْثُ وَفَّرْنَا
فِيهِ لِأَبْنائِنَا وَبَنَاتِنَا ما يُلْهِيهِمْ وَيُشْغِلُ قُلُوبَهُمْ،
وَيُؤَثِّرُ فِي سُلُوكِيَّاتِهِم، مِنْ أَجْهِزَةٍ وآلِيَّاتٍ وَأَلْعابٍ
عَزَلَتْ شُعُورَهُمْ، وَأَشْغَلَتْهُمْ عَنْ القرآنِ والسُّنَّةِ، وَمَلَأَتْ
قُلُوبَهُمْ وَحْشَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ، وَبَيْنَ عِبادِ اللهِ،
وَشَتَّتَتْ عَلَاقاتِهِم مَعَ أَهْلِيهِم وَأْرحامِهِمْ. حَتَّى صارَتْ
شُغْلَهُمْ الشَّاغِلَ، بَلْ صارَ عِنْدَهُمْ مِنْ التَّشَبُّعِ فِي الْمُتَطَلَّباتِ
مَا يُخِيفُ العُقَلاءَ!!!.
حَتَّى
وَصَلَ الأَمْرُ إلى أَنَّنا جَعَلْنَا صِغارَنَا وَشَبَابَنا لا يُفَرِّقُونَ
بَيْنَ الحاجاتِ والكَمَالِيَّاتِ، والنَّفقاتِ التي لا داعِيَ لِها.
وَهَذِهِ
في الحَقِيقَةِ جِنايَةٌ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، بِدَلِيلِ نَفَادِ الْمَصارِيفِ
التي تَكُونُ بِأَيْدِيهِمْ في وَقْتٍ قَصِيرٍ، لِأَنَّهُمْ يَتَعامَلَونَ مَعَ
الكَمَالِيَّاتِ في حَياتِهِمْ عَلَى أَنَّها ضَرُورِيَّاتٍ، بَلْ أَشَدُّ مِن
الضَّرُورِيَّاتِ، وَإذا مَرَّ عَلَى الواحِدِ مِنْهُمْ يَوْمٌ لَمْ يُشْبِعْ
رَغْبَتَهُ منْها، شَعَرَ أَنَّه مَحْرُومٌ، والسَّبَبُ في ذلكَ أَنَّ كَثِيرًا
مِنَّ الآباءِ واقِعٌ في نَفْسِ الْمُشْكِلَةِ، وَهَذِهِ جِنايَةٌ عَلَى النَّشْءِ
والشَّبابِ، لِأَنَّه سَيَتَخَرَّجُ بِسَبَبِها شَبابٌ لا يَعْرِفُ كَيْفَ
يَعِيشُ.
اللهم
لا تَجْعَلِ الدُّنْيا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، اللهم ولا
تكلنا إلى أنفسنا يا حيُّ يا قيوم، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً
إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مُبتلىً إلا عافيته،
ولا عسيراً إلا يسرته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها
صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسّرتها، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظنا
بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا
أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً
ومحكومين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، واجعلهم يداً واحدةً على
من سواهم، ولا تجعل لعدوهم منةً عليهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ألّف بين قلوب
المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم
على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لها، اللهم احفظ
بلادنا ممن يكيد لها، اللهم أصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر
للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب
الدعوات اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وأعنّا على
صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنّا يا رب العالمين اللهم صلّ وسلم على نبينا
محمد.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|