خَطَرُ
الهَوَى
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أيُّها الْمُؤمنون: اتقُوا اللهَ تَعالَى،
واحْذَرُوا مِن الهَوَى فَإِنَّه مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَبَيْنَ اتِّباعِ الحَقِّ. قال تعالى: ( فَأَمَّا
مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى
* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )، إِنَّ اتِّباعَ الهَوَى يَجْعَلُ الْمَعْرُوفَ
مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا، فَيُصْبِحُ الْمَرْءُ بِسَبَبِهِ لَا
يُمَيِّزُ بَيْنَ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلَا بَيْنَ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، إِلَّا مَا
أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه. يَقُولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَعَرْضِ الحَصِيرِ
عُودًا عُودًا، فَأَيُّمَا قَلْبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْداءُ،
وَأَيُّمَا قَلْبٍ أَنْكَرَها نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حَتَّى تَصِيرَ
القُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ: أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا لَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا
دَامَتْ السَّماواتُ والأَرْضُ، والآخَرُ أسْوَدَ مِرْبادًا كالكُوزِ مُجَخِّيًا
لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه
). أَيْ: أَصْبَحَ هَوَى النَّفْسِ هُوَ الذي يَقُودُهُ حَتَّى صارَ إِلهًا لَهْ
يَأْمُرُهُ وَيَنْهاه، كَمَا قال تَعالَى: ( أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ). وَقَدْ
دَلَّتْ الأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلْقُرْآنِ والسُّنَّةِ
فَهُوَ صاحِبُ هَوَىً. لِأَنَّ الضَّابِطَ فِي صَلَاحِ النَّفْسِ مِنْ فَسادِها
هُوَ اتِّباعُ مَا جاءَ بِهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم حتى لَوْ خالَفَ رَغَباتِ
النفْسِ. قال تعالى: ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ). عِبادَ
اللهِ: إِنَّ اتِّباعَ الهَوَى لَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ وَمَجالَاتٌ عِدَّةُ
يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَبِهَ لهَا المسلمَ حَتَّى لَا يَقَعَ في اتِّباعِ الهَوَى
مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. فَمِنْ ذلكَ
أَنْ يَلهَثَ وَراءَ لَذَّةٍ عاجِلَةٍ أَوْ مَصلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ مِنْ بَيْعٍ
أَوْ شِراءٍ أَوْ وَظِيفَةٍ دُونَ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ في
ذلك، وَإِنَّما هَمُّهُ أَنْ يُشْبِعَ رَغْبَتَهُ أَوْ يَحْصُلَ عَلَى
مَصْلَحَتِهِ، سَواءً كان ذَلِكَ حَلَالًا أَو حَرَامًا، يَقُولُ النبيُ صلى الله
عليه وسلم: ( تَعِسَ عَبْدُ الدينارِ، وَعَبْدُ
الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ
سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإذا شِيكَ فَلَا انْتَقَشْ ). وَمِنْ
صُوَرِ اتِّباعِ الهَوَىَ: أَنْ يَكُونَ الإنسانُ، فَاقِدًا
لِلْغَيْرَةِ فَلَا غَيْرَةَ عِنْدَه أَبَدًا، يَرَى الحَرامَ فَلَا يَتَحَرَّكُ
قَلْبُه، وَيَرَى الْمُنْكَراتِ فَلَا يَتَمَعَّرُ وَجْهُهُ، وَأَخْطَرُ مِنْ ذلكَ
أَنْ يُدافِعَ عَنْ الخَطَأِ وَالْمُنْكَرِ. وَقَدْ لَعَنَ اللهُ بَنِي اسرائيلَ
لِأَنَّهُمْ كانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ. وَلَمَّا جاءَ
شابٌّ يَسْتَأْذِنُ النبيَّ صلى اللهُ عليه في الزِّنَا، خَاطَبَ النبيُّ صلى الله
عليه وسلم غَيْرتَهُ فَقالَ: ( أَتَرْضاهُ
لِأُمِّكَ؟، أَتَرضاه لأختك؟ أتَرْضاه لِعَمَّتِكَ؟ أَتَرْضاه لِخالَتِكَ؟ )،
وَهُوَ يَقُولُ: لَا يَا رسولَ اللهِ. ثُمَّ وَضَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم
يَدَه عَلَى صَدْرِهِ فَقالَ: ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ
ذَنْبَه، وَحَصِّنْ فَرْجَه، وَطَهِّرْ قَلْبَه )، قال: فَوَاللهِ! لَقَدْ
خَرَجْتُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إليَّ فِي الدنيا مِنْ الزِّنا. ومن صور
اتباع الهوى: سُقُوطُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلى العِلْمِ عِنْدَمَا يَبِيعُ
دِينَهُ بِسَبَبِ مَنْصِبٍ أَوْ وَظِيفَةٍ، أَوْ بِسَبَبِ اتِّباعِ شَيْءٍ مِنْ
مَتاعِ الدُّنْيا، وَمِنْ ذلكَ أَنْ يَبْنِيَ فَتَاوَاه وَتَوَجُّهاتِه عَلَى
حَسَبِ مُتَغَيِّراتِ العَصْرِ حَتَّى لَوْ خالَفَ كِتابَ اللهِ وَسُنَّةَ رسولِهِ
صلى الله عليه وسلم، والعِياذُ بِاللهِ، كَمَا هِيَ حالُ بعضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إلى
العِلْمِ والدَّعْوَةِ في هذا الزَّمَانِ، حَيْثُ تَرَى لَهُمْ في كُلِّ وَقْتٍ
مِلَّةً وَنِحْلَة، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَصْحابُ هَوًى، كَمَا قال
تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ
الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ). وَمِنْ
صُوَرِ اتِّباعِ الهَوَى: عَدَمُ الإنْصافِ في القَوْلِ، فَتَجِدُ
الشَّخْص لَا يَعْدِلُ فِي كَلَامِهِ إلَّا مَعَ مَنْ يُحِبُّ وَيَهْوَى، وَأَمَّا
مَعَ مَنْ يُبْغِضُ أَوْ مَعَ مَنْ لَا يُحِبُّ، فَإِنَّه لَا يَصْدُرُ مِنْهُ
إلَّا القَوْلُ السَّيِّئُ أَوْ الوَصْفُ السَّيِّئُ، أَوْ عَدَمُ الإنْصافِ، قال
تعالى: ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ). باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد: أَيُّها
الْمؤمنون: إِنَّ الهَوَى لَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ إِلَّا
أَفْسَدَه، فَلَا يَدْخُلُ فِي عِبادَةٍ إلَّا أَفْسَدَها وَأَبْطَلَها وَأَخْرَجَ
الإخلاصَ مِنْها، وَأَدْخَلَ الرِّياءَ فِيها، وَلَا يَدْخُلُ فِي مالٍ إلَّا
أَدْخَلَ فِيهِ الحَرامَ، وَلَا يَدْخُلُ في عِلْمٍ إلَّا أَدْخَلَ فِيهِ
الجَهْلَ، وَلَا يَدْخُلُ في عَلَاقاتِ الناسِ والجيرانِ والأقارِبِ إلَّا
أَفْسَدَها وَأَدْخَلَ فيها العَدَاوَاتِ وَالبَغْضاءَ والتُّهَمَ الباطِلة. ثُمَّ
اعْلَمُوا يَا عِبادَ اللهِ أَنَّه لَا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ العَبْدُ
حَتَّى يَكُونُ هَواه تَبَعًا لَمَا جاءَ بِهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فَهُوَ
المِيزانُ الحَقِيقِيُّ فِي ذلكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِه تَعالَى: ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ). اللهم ألهمنا رشدنا
وقنا شرور أنفسنا، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا
وارزقنا اجتنابه ولا تُلّبسه علينا فنضلّ، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا
بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا رب
العالمين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجّهم
من الظلمات إلى النور يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً
ومحكومين، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب
العالمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ
الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من
المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين،
اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم نج إخواننا المستضعفين في فلسطين، اللهم ليس لهم
حول ولا قوة إلا بك، اللهم ليس لهم إلا أنت يا قوي يا عزيز فانصرهم على من ظلمهم
وعاداهم، اللهم ارحم ميتهم، واشف مريضهم، واكس عاريهم، وأطعم جائعهم، وآمن
روعاتهم، وثبت أقدامهم، وأنزل السكينة عليهم، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن
خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحتهم وتولهم برحمتك يا أرحم
الراحمين، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك
المؤمنين اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم اللهم
سلط عليهم منْ يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها
وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها يا خير الحافظين،
اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، وبصّرهم بأعدائهم
يا حي يا قيوم، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |