سلمان أنموذجا لأهل الإيمان
الحمد لله الهادي إلي سبيل الرشاد ، والرءوف بالعباد ، يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، و } مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ { ، } وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ { ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه ، } أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ { . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم التناد .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته سبحانه لعباده ، وخير زاد يتزود به العبد ، في حياته لمعاده ، يقول U في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، ويقول سبحانه : } وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن لأصحاب النبي r ، ورضي الله عنهم أجمعين ، إن لهم مكانة عظيمة ، ومنزلة سامية رفيعة ، عند الله U ، وعند رسوله r ، وعند العقلاء من المسلمين ، يقول تبارك عنهم : } وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { ، ويقول النبي r كما في الحديث الصحيح : (( لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ ، وَلَا يَبْغَضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ )) .
فمنزلة أصحاب النبي r ، منزلة سامية ، لم يبلغوها لسلامة أجسامهم ، ولا لكثرة أموالهم ، ولا لرتبهم وشهاداتهم ، إنما بلغوها لاهتمامهم بهذا الدين ، وتضحيتهم من أجله ، ومحبتهم له ، ولعلنا - أيها الأخوة - نذكر قصة رجل منهم ، لندرك كيف وصلوا تلك المنزلة ، وأدركوا هذه المكانة .
أيها الأخوة :
إنه سلمان الفارسي t ، رجل من بلاد فارس ، ولكن النبي r ، لمكانته وفضله ، ومحبته r له ، قال عنه : (( سلمان منا أهل البيت )) ، يقول t - والقصة وردت بسند صحيح - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ ، قَالَ : كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا جَيٌّ ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ ، واَجْتهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً ، قَالَ : وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ ، قَالَ : فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا ، فَقَالَ لِي : يَا بُنَيَّ ، إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي ، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا ، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى ، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ ، وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ ، قَالَ : فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ ، وَقُلْتُ : هَذَا وَاللهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ ، فَوَاللهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا ، فَقُلْتُ لَهُمْ : أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ ؟ قَالُوا : بِالشَّامِ قَالَ : ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي ، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ ، قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ ، قَالَ : أَيْ بُنَيَّ ، أَيْنَ كُنْتَ ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا أَبَتِ ، مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ ، فَوَاللهِ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، قَالَ : أَيْ بُنَيَّ ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ ، قَالَ : قُلْتُ : كَلَّا وَاللهِ إِنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا ، قَالَ : فَخَافَنِي ، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ ، قَالَ : وَبَعَثَتُ إِلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ : إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّام تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ ، قَالَ : فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى ، قَالَ : فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ ، قَالَ : فَقُلْتُ لَهُمْ : إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ ، قَالَ : فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِن رِجْلَيَّ ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا ، قُلْتُ : مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ ؟ قَالُوا : الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ ، قَالَ : فَجِئْتُهُ ، فَقُلْتُ : إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ ، قَالَ : فَادْخُلْ فَدَخَلْتُ مَعَهُ ، قَالَ : فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا ، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ ، اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ ، قَالَ : وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ ،ثُمَّ مَاتَ ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ ، فَقُلْتُ لَهُمْ : إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا ، قَالُوا : وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ ؟ ، قَالَ: قُلْتُ أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ ، قَالُوا : فَدُلَّنَا عَلَيْهِ ، قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ ، قَالَ : فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا ، قَالَ : فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا : وَاللهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا فَصَلَبُوهُ ، ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ ، ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ ، فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ ، قَالَ : يَقُولُ سَلْمَانُ : فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ ، أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ ، أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا ، وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَا أَدْأَبُ لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ ، قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ ، فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا ، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَك وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللهِ ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ، وَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : أَيْ بُنَيَّ وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ ، إِلَّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ ، وَهُوَ فُلَانٌ ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ ، فَالْحَقْ بِهِ ، قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ ، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ فَقُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ ، قَالَ : فَقَالَ لِي : أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ ، فَلَم يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، قُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ، وَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : أَيْ بُنَيَّ ، وَاللهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا بِنَصِيبِينَ ، وَهُوَ فُلَانٌ ، فَالْحَقْ بِهِ ، قَالَ : فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ ، فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي ، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي ، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ ، فَوَاللهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ ، فَلَمَّا حَضَرَ ، قُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ ، إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ : أَيْ بُنَيَّ ، وَاللهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِعَمُّورِيَّةَ ، فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا ، قَالَ : فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ ، وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي ، فَقَالَ : أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ ، قَالَ : وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ ، قَالَ : ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللهِ ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ ، فَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ ، وَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ : أَيْ بُنَيَّ ، وَاللهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ ، بِه عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى : يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَق بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ ، قَالَ : ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ ، فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أَمْكُثَ ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا ، فَقُلْتُ لَهُمْ : تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ ؟ قَالُوا: نَعَمْ فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي ، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا ، فَكُنْتُ عِنْدَهُ ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي ، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ ، قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي .
أيها الأخوة :
فأي تضحية ، وأي مشقة وتعب ، بذله سلمان ، فمن إيران إلى الشام ثم إلى العراق ثم إلى تركيا ثم إلى شبه الجزيرة العربية ، ومن أبن رجل ذي مكانة في قومه إلى عبد يباع ويشترى ، وذلك كله بسبب البحث عن الدين الصحيح ، والمنهج السليم ، فلا نامت أعين الكسالى ، وأصحاب الشهوات ، الذين بين أيديهم الدين ، ولكنهم كما قال تعالى : } يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ { .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
وماذا حدث لسلمان في المدينة ، يقول t : فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللهُ رَسُولَهُ ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ ، مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاللهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي ، أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ ، إِذْ أَقْبَل ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : فُلَانُ ، قَاتَلَ اللهُ بَنِي قَيْلَةَ ، وَاللهِ إِنَّهُمُ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ ، عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ ( أي الرعدة مثل رجفة الُحمى ) حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي ، قَالَ : وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ : مَاذَا تَقُولُ ؟ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ، ثُمَّ قَالَ : مَا لَكَ وَلِهَذَا أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ ، قَالَ : قُلْتُ : لَا شَيْءَ ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمَّا قَالَ : وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ r وَهُوَ بِقُبَاءَ ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ : فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r لِأَصْحَابِهِ : (( كُلُوا )) وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : هَذِهِ وَاحِدَةٌ ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا ، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ r إِلَى الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ ، فَقُلْتُ : إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا ، قَالَ : فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ r مِنْهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ ، قَالَ : فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : هَاتَانِ اثْنَتَانِ ، قَالَ : ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللهِ r وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، قَالَ : وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ، عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ ، هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللهِ r اسْتَدَبَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي ، قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ r : (( تَحَوَّلْ )) فَتَحَوَّلْتُ ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، قَالَ : فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللهِ r أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ .
أيها الأخوة :
ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ r بَدْرٌ ، وَأُحُدٌ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ r : (( كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ )) فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ ، وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r لِأَصْحَابِهِ : (( أَعِينُوا أَخَاكُمْ )) فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً ، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ ، وَالرَّجُلُ بِخَمْس عَشْرَةَ ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يَعْنِي : الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ ،حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ r : (( اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ )) قَالَ: فَفَقَّرْتُ لَهَا ، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي ، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ r مَعِي إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللهِ r بِيَدِهِ ،فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ ، وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ r بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي ، فَقَالَ : (( مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ ؟ )) قَالَ : فَدُعِيتُ لَهُ ، فَقَالَ : (( خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ )) فَقُلْتُ : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللهِ مِمَّا عَلَيَّ ؟ قَالَ : (( خُذْهَا ، فَإِنَّ اللهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ )) قَالَ : فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا ، وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ ، أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً ، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ ، وَعَتَقْتُ ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ r الْخَنْدَقَ ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ .
أيها الأخوة :
هذه قصة سلمان ، وماهي إلا من باب الذكرى ، والذكرى كما قال U : } فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ { .
جعلني الله وإياكم من عباده المؤمنين ، الذين إذا ذُكِّرُوا ذَكَرُوا ، وإذا أعطوا شكروا ، وإذا ابتلوا صبروا ، وإذا أذنبوا تابوا واستغفروا ، إنه سميع مجيب .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، فارحمها برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واحشرنا في زمرة الأتقياء ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر ، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، وعجل بزوال الطغاة المجرمين ، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |